للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكنه لم يفعل، بل تركنا نعصاه، ونقصر في حقه أكثر وأكثر.

ولكن لماذا لم يفعل ذلك وهو القادر المقتدر؟!

الإجابة واضحة؛ لأنه يحب عباده ويريد لهم أن يُنهوا حياتهم نهاية سعيدة لذلك فهو يحلم ويصبر عليهم لعل لحظة تأتي عليهم يفيقون فيها من غفلتهم، ويتوبون إليه فيتوب عليهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: ٦].

تأمل معي قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ - أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ - أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: ٤٥ - ٤٧].

لكنه لم يفعل، لأنه كما جاء في ختام الآية الأخيرة "فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" [النحل: ٤٧].

نعم أخي القارئ، فربنا رب حليم، صبور، لا يؤاخذ عباده بأفعالهم السيئة ولو فعل لما تنعم متنعم بيومه أو ليله ولتذوَّق الجميع العذاب الأليم {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: ٥٨].

جاء في الأثر: ما من ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل سربال سترها، إلا نادى الجليل جل جلاله: مَن أعظم مني جودًا والخلائق لي عاصون وأنا لهم مراقب، أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا فيما بيني وبينهم، أجود بالفضل على العاصي، وأتفضل على المسيء.

من ذا الذي دعاني فلم أُلبَّه، أم من ذا الذي سألني فلم أعطه، من ذا الذي أناخ ببابي فنحيته (١).

وكان ابن السماك يقول في مناجاته:

تباركت يا عظيم .. لو كانت المعاصي التي عصيتها طاعة أطعت فيها ما زاد على النعماء التي تبتليها.

وإنك لتزيد في الإحسان إلينا كأن الذي أتيناه من الإساءة إحسان.

فلا أنت بكثرة الإساءة منا تدع الإحسان، ولا نحن بكثرة الإحسان منك إلينا عن الإساءة نقلع.

أبيت إلا إحسانًا وأبينا إلا إساءة واجتراء.

فمن ذا الذي يحصي نعمك ويقوم بإحسانك وبأداء شكرك إلا بتوفيقك ونعمك؟! (٢)

[غضبة الكون]

* أخي القارئ.

والله ثم والله لو قُدَّر لأحدنا أن يرى ما يحدث في الأرض كما يراه الملأ الأعلى لاستشاط غضبًا، ولألح على الله بتعجيل عقوبته لأهل الأرض جميعًا.

تخيل أنك ترى أناسًا يعيشون في ملك الله.

ويأكلون من رزقه.

وينامون آمنين في حفظه.

والخدم تحيط بهم من كل جانب .. مسخَّرة لديهم ومأتمرة بأوامرهم.

ثم بعد ذلك كله لا يذكرون من أكرمهم بهذا كله, لا يشكرونه، ولا يعبدونه، بل يعصون أوامره، ويجحدون نعمه، ويبارزونه بالمعاصي، ويدَّعون عليه الادعاءات, فمن قائل إن له ولدًا، ومن قائل إن له شريكًا، ومن قائل إن هناك إلهًا غيره.

تخيل أن هذا يحدث كل يوم، بل في كل وقت، وتخيل أنك ترى هذا كله، فماذا سيكون رد فعلك؟!

سيكون بلا شك رد الفعل الطبيعي الذي تعيشه كل المخلوقات التي تشاهد ما يفعله الإنسان من جحود وعصيان، وتجرؤ على ربه.

سيكون مثل رد فعل السماوات والأرض والجبال حينما يردد بعض الضالين أن لله ولدًا {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا - لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا - أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: ٨٨، ٩١].

سيكون رد فعلك كالبحر الذي يستأذن كل يوم أن يغرق ابن آدم لكثرة معاصيه، وجرأته على ربه.


(١) شرح حديث لبيك اللهم لبيك لابن رجب ص ١٣٨.
(٢) حسن الظن بالله لابن أبى الدنيا ص ٦٣.

<<  <   >  >>