وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى - معركة الضمير - قد انتهت؛ فهي معركة خالدة، الشيطان صاحبها؛ وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قائم على دعوة الله هناك - وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة - في شظف من العيش والدنيا مقبلة عليه، وفي جهد وكدِّ والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة، وفي نصب دائم لا ينقطع، وفي صبر جميل على هذا كله، وفي قيام الليل، وفي عبادة لربه، وترتيل لقرآنه وتبتل إليه، كما أمره أن يفعل وهو يناديه:(يا أيها المزمل * قم الليل إلا قيلاً * نصفه أو أنقص منه قيلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً * إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً * إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً * إن لك في النهار سبحاً طويلاً * وأذكر إسم ربك وتبتل إليه تبتيلا * رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فأتخذه وكيلا * واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا).
وهكذا قام محمد - صلى الله عليه وسلم - وهكذا عاش في المعركة الذائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً، لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد، منذ أن سمع النداء العلوي الجليل وتلقى منه التكليف الرهيب، جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء ...