فعندما يذهب (باليه الأوبرا) في باريس إلى موسكو، أو عندما يأتي باليه الأوبرا من موسكو ليقدم بعض التمثيليات على المسرح الباريسي، فإن الذي يهمنا استخلاصه من أجل بناء الفكرة الأفرسيوية ليس مجرد تبادل الفرق الراقصة، بل هو أن كلاً من هذه الفرق قد وجد خلال رحلاته جمهوره مع اختلاف بسيط في الألوان، ووجد الجو نفسه، والانفعال الجمالي نفسه. فمن المؤكد أن تطوافه لا بد وأن يقوي هذه الوحدة في الإطار الفني، وأن يقوي (الروابط الثقافية) حسب التعبير الدبلوماسي. ولكن الفن في حد ذاته يجد في الوقت نفسه في تطوافه- أي خلال هذا التبادل- إلهامات جديدة، ودوافع جديدة.
وهكذا يتوافق السبب وأثره في نتيجة كلية تصدر عن الواقع الذي سبق وجوده أي إطار الحضارة المشتركة، ومن الواضح أن الباليه الروسي لم يكن له أن يجد في (فاس) مثلاً جمهوره، ولا ذلك الصدى نفسه.
فالتبادل يصبح تقريباً غير ذي فائدة أو على الأقل غير ذي موضوع، عندما يخرج عن إطاره الذي يعطيه قيمته الاجتماعية، ومعناه الثقافي.
وإذن فتحديد التبادل الفعال الذي نتصوره ليساعد على تكوين ثقافة يجب أن يبدأ من هذه النظرة العامة عن ((المحيط)) الثقافي. فالثقافة هي أولاً:(محيط) معين يتحرك فيه الإنسان، فهو يغذي إلهامه، ويكيف مدى صلاحيته للتأثير عن طريق التبادل. والثقافة (جوّ) يتكون من ألوان، وأنغام وعادات وتقاليد وأشكال وأوزان وحركات تطبع على حياة الإنسان اتجاهاً، وأسلوباً خاصاً يقوي تصوره، ويلهم عبقريته، ويغذي طاقاته الخلاقة. إنها الرباط العضوي بين الإنسان والإطار الذي يحوطه. وهي التي تقدم لنظر الزائر السماوي نموذجاً اجتماعياً معيناً متشابهاً من واشنطن إلى موسكو، ولكنه مختلف في جميع سماته عن النموذج الاجتماعي الآخر الذي يتحرك داخل الإطار من طنجة إلى جاكرتا، كما رأينا.