القوى الأخلاقية والعقلية، ومن الطاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهي في غايتها باعتبارها حضارة يجب أن تمثل تركيب هذه القوى جميعاً. فالتماسك الداخلي الذي أودعته باندونج بين هذه الطاقات قد استمد من مبدأ فكري مشترك، يكمن أساساً في النزعة العادية للاستعمار لدى الشعوب الأفرسيوية. ولكن التطور الذي يجب أن يحلف وراءه مرحلة الاستعمار، سيتجاوز ضرورة نزعة العداوة للاستعمار أيضاً. وبالتالي فإن الفكرة الأفرسيوية يجب أن تؤسس منهجها الأخلاقي على مبدأ إيجابي أكثر من ذلك، ولكن بحيث لا يكون في جوهره دينياً (١). ولقد رأينا في الفصل السابق أسباباً جوهرية تحملنا على أن نراعي في المفهوم الأخلاقي للفكرة الأفرسيوية التعدد الضروري، أو على الأقل ازدواج مبدئها الأخلاقي الأساسي، حتى لا نخلع عليها صفة (الكتلة) الدينية.
وفي هذا الازدواج لا يمكن أن يكون الأمر أمر محاولة للتلفيق والاصطناع، بل أمر ميثاق أخلاقي بين الإسلام والهندوسية ليتخذا وجهة دولية واحدة.
فليست المسألة إذن أن نجدد المحاولة العابثة التي قام بها الإمبراطور (أكبر) الذي أراد في القرن السادس عشر أن يؤسس إمبراطوريته في الهند على أساس تلفيق وحدة إسلامية- هندوسية.
إن الأديان لا يمكن أن تتنازل لكي تستغل كوسائل لمثل هذه الغايات، ولو أننا أردنا أن نأخذ درساً من الماضي في هذا الميدان فإن تاريخ الغرب يعطينا إياه، فإن الحضارة الغربية قامت في بدايتها على هيكل أخلاقي مسيحي أتاح لها
(١) إننا نحدد هنا مضمون الثقافة بالنسبة إلى مجموعة معينة هي مجموعة الشعوب الإفريقية الآسيوية. أما تحديد الثقافة بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي فقد عقدنا له فصلاً خاصاً في كتاب (شروط النهضة ومشكلات الحضارة) حيث بينا أن (المبدأ الأخلاقي) يقوم على أساس ديني. وهكذا نبين للقارئ أن الثقافات المختلفة تتفق في ثلاثة عناصر معينة وقد تختلف بالنسبة إلى العنصر الأخلاقى لاتصاله بالعقيدة.