وليس من شك في أن هذه الضرورة هي التي توحي إلى جون توينبي ( J. Toynbee) بنظرية عن النظام التعاوني في الحكومة العالمية، وفي هذا النظام يرى المؤرخ الإنجليزي الكبير أنه الطريق الوحيد للخروج من الأزمة الراهنة، والوسيلة الوحيدة أمام الإنسانية للخلاص من دكتاتورية عالمية يسميها (دولة عالمية Etat Universel تفرضها القوة)، وهي التي ستكون في نظره النتيجة المحتومة للنزاع العالمي الثالث.
إن الدورة الجهنمية التي تكاد تنتهي دائماً بحرب جديدة، والتي أصبحت مع نمو القوة غير المألوف لا تتفق مع بقاء الجنس البشري نفسه؛ هذه الدورة لا يمكن أن تمحى إلا بنظام عالمي صالح لإزالة أوجه التعارض الانفجاري في العلاقات الدولية، فمشكلة الحرب كما فسرها كلوزوفيتز ( Clausewitz) هي كل مشكلة هذا التعارض الانفجاري، أي التعارض الذي لا يمكن أن يزول بالوسائل السياسية، ولا يمكن أن ينحل بدورة تطورية، فصورة الظاهرة تتحدد تقريباً بما يطلقون عليه في مصطلحات الكهرباء (تيار الانفصال Courant de rupture)، إذ تنطلق الشرارة عندما يحدث قطع وانفصال مفاجئ في الجهاز الموصل، أي في الواقع عندما يحدث تغير في مادة هذا الجهاز، ويمكن نقل هذه الظاهرة نفسها إلى الوسط الإنساني فإن التعارض يصبح فيه انفجارياً إذا ما حدث انفصال فكري وعنصري، فإذا بشرارة القطع تنطلق في منطقة الجرح على حدود فكرة أو جنس، فهي إذن الحرب والعنصرية والاستعمار، أي جميع صور التعارض العنيفة. ومن الوجهة الظاهرية نرى هكذا أن مشكلة السلام والحرب في العالم هي مشكلة التكوينات العالمية، والشرارات التي تنطلق إنما تدل على أن العالم ليس متجانساً، وهي تبرهن أيضاً على أن من الواجب تحقيق تجانسه- وبعد الحربين العالميتين على الأخص- لتحاشي انطلاق شرارة الحرب الثالثة التي تهدد بقاءه نفسه، وهذه الاعتبارات ترد مشكلة الحضارة إلى المستوى العالمي، إذ تضعها في هذا المستوى. وهنا تواجهنا مرة أخرى قضية (الكومة) المتنوعة الأجزاء، و (الكل) المتوازن المتجانس.