وإذا دلت هذه الاعتبارات على وجوب تنظيم العالم من الناحية السياسية طبقاً لخطة (حكومة عالمية) فمن الناحية الاجتماعية تدل على وجوب تحقيق هذا الوضع في صورة (حضارة) عالمية وبهذا الشرط المزدوج يتحقق الحل الحاسم لمشكلة (الخلاص المشترك). فأفكار شهود العصر الكبار تتلاقى إذن مع الضرورات الداخلية لتطوره، ولقد دخلت الإنسانية في عهد العالمية تحت وخز ضرورات هذا التطور، وبفضل الدفع الروحي الذي حظي به العالم على يد رواده الكبار. وبذلك تأيد المنطق العميق الذي قال به عباقرة العالم، بمنطق الواقع الغلاب، إذ ربما يصبح العقل الإنساني عديم القيمة إذا لم يتوافق مع اطراد الأحداث التي تطبع إرادة الله على صفحات التاريخ، كما يكون آثماً من يحاول تحريف مجرى التاريخ كأنما هو يعارض إرادة الله.
ولا شك في أننا نهز أكتافنا في كبرياء حين تتمثل هذه الإرادة في هيئة نموذج طريف مثل (المواطن العالمي)(١).
أما الذين يزدرون الفكرة أولئك المتأصلون في نزعات الأنانية المستعصية، وفي أسطورة الأجناس المختارة، أو الشعوب المختارة فإنهم يجدون في هذه النماذج الطريفة أدلة ضد ما يطلقون عليه (الأسطورة العالمية)، إن الازدراء يقيهم من التفكير، ومع ذلك فهو لا يمنع التاريخ من التقدم دون تراجع.
والعالمية في مجراها ليست أطروفة من مفاجآت التاريخ، وليست اتجاهاً عقلياً أو سياسياً، وإنما هي ظاهرة القرن العشرين، وهي في واقعها المادي نتاج رائع لمقدرة الإنسان، وللمستوى الجديد الذي رفعت إليه هذه المقدرة ألوان نشاطه حتى أصبحت العالمية غريزة القرن العشرين، ومعناه. هذا هو الواقع الذي أوحى إلى (مونييه) أستاذ الوجودية المسيحية بالاعتقاد في وحدة التاريخ حين أدركه في الإطار الميتافيزيقي الذي وضع فيه مشكلات الإنسان، والوجودية السارترية
(١) هو جاري دافيز Gary davis المواطن الأمريكي الذي سلم في جنسيته ودعا إلى القومية العالمية.