للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

يصوغ قصائد المديح بعيداً عن هذه المشكالات، وعن مضمونها الواقعي. وهو يعتقد أنه مضطر- شأنه في ذلك شأن جميع المؤمنين بالأديان كلها- إلى أن يسمو بهذا المضمون إلى مرتبة المثل الأعلى، وإلى أن يخلع عليه عناصر جمالية ذاتية، وإلى أن يرسم- عموماً- في عقله صورة ملق لدينه، كأنما الإسلام في حاجة إلى أن يهبوا له جمالاً، وكأنما القبائح الإنسانية التي فينا يمكنها أن تشوه جمال وجهه، فتجعل من الضروري عمل (ماكياج).

هذا الاتجاه إلى المديح يدل في جوهره النفسي على جبن في الإيمان، الإيمان الذي لا يستطيع- تبعا لكلمة عمانويل مونيه الموحية- أن يقاوم (الصراع الباطني) الذي تعرضه له أحداث الحياة والتاريخ. وبصفة عامة هذه هي أعراض المرض الاجتماعي لوسط لم يعد لديه الوسيلة، والهم الذي يدفعه للتغلب على نواحي ضعفه، وسط انحطت فيه قوى الحركة والتقدم، فالمديح إنما هو تعويض بالكلام عن الواقع المحس، تعويض عن الحقيقة الموضوعية في هذا الوسط بالحقيقة الشخصية الذاتية: وتلك هي محاولة تبرير انحطاط القوى الأخلاقية والاجتماعية. وهذا التبرير يحدث بطريقتين، فهو إما تعويض بالذاتي عن الموضوعي، وإما تعويض بماض مشرف مهيب عن حاضر مفلس، وهو في كلتا الحالين يجعل من باب المستحيل إحداث علاج اجتماعي. فمن البدهي أننا حين نواجه مشكلة الرمد مثلاً، وهي من المشكلات التي تحدث كثيراً من الخسائر في العالم الإسلامي بكل أسف، فليس مما يحل المشكلة أن نقول بأن طب الرمد كان من اختراع عالم مسلم من علماء القرن الثالث عشر هو ابن المحصن فإن تعويضنا- اللاشعوري- بلوحة من لوحات الماضي عن واقع الحال قد يجعل الحل مستحيلاً من الوجهة النفسية. على أنه ليس من مهمة الإسلام الخالد أن يستر أو يبرر بطريقة أو بأخرى ضعف نظام زمني يدعي أنه إسلامي، خاصة إذا ما علمنا أن الإسلام من معدن روحي لا يحتاج مطلقاً إلى أن يغمس في المديح، أو في (ماء الورد) حيث أراد بعض المحترفين سيئي التوجيه أن يغمسوه ليمنحوه- فيما

<<  <   >  >>