ولكن أبناء المستعمرات كانوا قد اعتزموا وكرسوا قواهم لإحراز حريتهم، فبلغت الأزمة بذلك قمتها، إذ إن النظام الاستعماري الذي كان فيما مضى رأس مال للعالم المتحضر قد صار (تحدياً) له، وهو تحد يفسح المجال لمواجهة أليمة بين قسمين متباينين ومتعارضين، في الضمير الإنساني المنقسم على نفسه.
وكأننا أمام معركة بين (القدامى والمحدثين) من نوع جديد، وذات طابع غريب شاذ، يمثل فيها (المتحضرون) القوى الرجعية البالية المتشبثة بأذيال الماضي، على حين يمثل (المتأخرون) القوى المتطلعة إلى المستقبل.
وكان مسرح المعركة أحياناً .. هيئة الأمم المتحدة، فأمكننا أن نحكم بهذا على كلا المتخاصمين في الدور الذي يقوم له في هذا المسرح الجديد، كلما نوقشت مشكلة الحرية، وخاصة حرية إفريقية الشمالية.
وإذن فهذا اختبار جوهري: لأنه عندما تحذف هذه المشكلة- مشكلة الحرية - وعندما ترفض الفكرة أو الجزاء في أي تحكيم دولي، فإن ذلك يوقف النمو التاريخي الذي يهدف إلى أن يحقق في العالم تنظيماً فنياً للعلاقات الإنسانية.
وإن حياة مشتركة متواثقة الصلات لتفرض في الواقع جواراً وثيقاً، وبالتالي حقوقاً لهذا الجوار في النطاق العالمي. ولكن تنظيماً كهذا ليسر مستقلاً عن التقدم الخلقي باعتباره النتيجة النفسية للتقدم الصناعي. والتقدم الخلقي لا يجد صورته في هذا النطاق إلا في تحكيم دولي يرضى الناس بكل حرية عن فكرته وجزائه.
ولما كانت صلاحية نظام كهذا تكمن في الحرية التي يتيحها لكل فرد، أو يدافع عنها لمصلحته. فإن هذه الصلاحية تنتهي منذ اللحظة التي يكون فيها النظام متصوراً أو معتبراً على أنه وسيلة للنشاط زائدة، موضوعة تحت تصرف الكبار لضمان امتيازاتهم أكثر من أن يكون وسيلة لضمان المصالح الحيوية للإنسانية، وعلى الأخص حرياتها الأساسية التي عرفت في الاعلان الدولي المشهور لـ (حقوق الإنسان).