للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وجوب التحاكم إلى الإسلام وتحريم التحاكم إلى الطاغوت]

وكقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء:٦٠] وتمام الآية وهي محل الشاهد: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:٦٠]، يعني: يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ومع ذلك يلجئون إلى التحاكم إلى الطاغوت اختياراً من غير اضطرار وقد أمروا أن يكفروا به، فعد ذلك زعماً، وأنهم بهذا ما دخلوا في الدين، وأنهم بسبب هذا المبدأ بقوا من الكافرين الذين لم يدخلوا في الإسلام، وأن دعواهم ليست دعوى سليمة ولا صحيحة ولا مقبولة عند الله عز وجل حينما ادعوا ادعاء ثم ناقضوه بتحاكمهم إلى الطاغوت، وهذا أمر خطير يجب التنبه له في هذا الأصل، وهو الذي يدور حوله النقاش الآن والكلام بين كثير من أهل العلم في مسألة التشريع والإيمان ونحو ذلك، وما حصل به من ميل بعض الناس إلى بعض المرجئة، وميل آخرين إلى بعض أقوال المكفرة، وأهل السنة أهل الحق بقوا على المنهج الحق الوسط.

فهذه المسألة من المسائل الخطيرة، وهي مسألة التحاكم إلى الطاغوت، والتحاكم سواء كان جزئياً أو كلياً لابد أن يدخل فيه التفصيل فيمن حكم بغير ما أنزل الله، أو حكَّم غير ما أنزل الله، ولا فرق بين الحكم والتحاكم من حيث التنظير العام، وقد نفرق في الصور الفردية، أما من حيث الأصل فكلها عدول عن شرع الله عز وجل، وسواء كان في مسألة التشريع العام أو التقنين أو في مسائل جزئية كالربا أو الزنا أو نحو ذلك، فإن هذه الجزئية إن صح التعبير يحكمها ما يحكم الأمر الكلي في التحاكم، لكن كل هذه الأمور لابد من التفصيل فيها، ولا يلزم للخروج من الإسلام الاستحلال فقط، بل الإعراض الكلي وترك جنس العمل يعتبر عدم إذعان لدين الله عز وجل، فكلمة (استحلال) من الكلمات المجملة التي لم يتفق عليها المتنازعون في هذه المسألة التي أثيرت في الآونة الأخيرة، والتي قال فيها علماؤنا حفظهم الله والتي يجب الاجتماع عليها.

ومن هنا أوصي إخواني طلاب العلم بقاعدة معلومة عند السلف وهي أنه إذا اختلف طلاب العلم في أمر من الأمور مهما كانت اجتهاداتهم، ثم وصل هذا الاختلاف إلى أهل الحل والعقد من العلماء الكبار مثل اللجنة الدائمة أو هيئة كبار العلماء أو غيرها من الهيئات المعتبرة أو العلماء المعتبرين ثم قالوا قولتهم، فيجب الاجتماع على هذه المقولة خوفاً من الفرقة والفتنة والشذوذ والتشرذم الذي وقع بين كثير ممن يدعون السلفية الآن، واستجابة لأمر الله عز وجل، ولنفترض أن أحد طلاب العلم له رأي آخر يرى أنه الرأي الراجح، فيفترض أنه في مثل هذه المسألة التي حسمها العلماء أن يتراجع مادامت المسألة خلافية، ويجب على المسلم أن يتهم نفسه وقدرته واستطاعته، مادام أن الأمر قد تكلم فيه العلماء، لكن إذا كان الأمر من باب التجوز وأنه قد يكون لبعض طلاب العلم رأي يخالف رأي هيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة؛ فإنه يجب عليه أن يسكت عندما يصل النزاع إلى افتراق الناس، وأن يكون هذا مؤيداً وهذا معارضاً، فيجب على طالب العلم إذا تكلم العالم الكبير أن يسكت جمعاً للكلمة وخوفاً من الفرقة، والقاعدة التي اتفق عليها السلف في مثل هذه الأمور في مصالح الأمة العظمى أنه يجب الاجتماع على الرأي المرجوح وترك الرأي الراجح عند صاحبه، وإن كان يرى أنه هو الأحق وأن الدليل معه؛ لأن الآخرين معهم دليل كذلك، فالمسألة لم تكن قطعية، ولو كانت قطعية ما ورد فيها خلاف بين أهل العلم المعتبرين، وأشير بهذا إلى مسألة مثارة في الاستدلال وعدم الاستدلال، ومسألة الإيمان وما قيل في بعض مقولات الإرجاء ونحو ذلك، فالأدب الذي يجب أن يلتزمه طالب العلم؛ أنه إذا تكلم العلماء أن يسكت وإن كان يرى أنه محق أو مظلوم أو غير ذلك من العبارات التي قد يقتنع بها شخص أو أكثر، فلا يسعه أن يسكت ويثير الفتنة، ولا يرد على العلماء ولو بأدب؛ لأنه إذا وصل الأمر إلى أن رأس الأمة من العلماء الكبار يدخلون في الموضوع، فما دخلوا إلا لأن الأمر يجب أن تجتمع عليه الكلمة، وما دخلوا إلا لأنهم خافوا الفرقة.

إذاً: يجب على طالب العلم أن يذعن ويتهم نفسه ويبدي رأيه في وقت آخر إذا كان له رأي عندما تهدأ الأمور، أما في مثل هذه الظروف فأرى أن مصادمة رأي أهل العلم أو الوقوف ضد رأيهم، أو الإصرار على رأي يخالف ما اتفقوا عليه وعلموه أنه نوع من عدم الصبر، ونوع مما قد يستغل في تفريق الأمة نسأل الله السلامة والعافية.

<<  <  ج: ص:  >  >>