الكلام عن غربة الإسلام لابد له من ضوابط: منها أنه لابد من رد نصوص الغربة إلى النصوص الأخرى التي فيها الإشارة إلى ضمان بقاء طائفة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم، وهم أهل السنة والجماعة، وهذا يفسر معنى الغربة شرعاً، وعلى هذا فإن حدود الغربة لا يمكن أن تكون بضياع الحق وانعدامه وخفائه، كما أنها لا تكون باستئصال أهل الحق، وهذا أمر قطعي، وبه لابد أن تفسر نصوص الغربة من الوجه الآخر، وهو أن الغربة تأتي على وجوه قد تجتمع وقد يوجد بعضها، ومن وجوه الغربة قلة أهل الحق عددياً، وأحياناً قلة المسلمين عددياً، وقلة أهل الحق أهل الاستقامة بين المسلمين نوع من الغربة، وقلة المسلمين بين الأمم نوع من الغربة؛ خاصة إذا صحب هذا النوع الثاني من الغربة أو النوع الثالث كثرة الخبث وكثرة البدع والأهواء والافتراق والفسق والفجور، فإنه إذا كثر ذلك قلَّ عدد أهل الحق لكن لا يكون ذلك بانعدام وجودهم ولا بضياع الحق ولا بخفاء السنة، لا يمكن أن يكون من الغربة خفاء السنة في العموم ولا خفاء جميع أهل الإسلام، فالغربة قد تكون في بلاد ما، أي: غربة المسلم المستمسك بدينه في بلد كانت إسلامية ثم أصابها ما أصابها، إما من اعتداء الكفار، أو انحراف أهلها إلى البدع والخرافات كما يكون في أقاصي العالم الإسلامي، أقاصي بلاد المسلمين كانت في يوم من الأيام الأصل فيها السنة، والسنة هي الظاهرة والبدعة مقموعة، ثم مع تحولات الزمن أصبح صاحب السنة فيها في غربة شديدة، فهذا يكون في بعض البلاد الإسلامية لا في كلها.
وأيضاً قد تكون غربة الإسلام نفسه في بلد كانت إسلامية ثم تحولت إلى غير إسلامية مثل الأندلس، لأن الأندلس تمثلت فيها معاني الغربة للمسلم الذي بقي بعد دخول الكفار فيها بعد أن بقيت على الإسلام ثمانية قرون، فهذه غربة تتمثل فيها أقسى أنواع الغربة، وهناك بلاد في العصور الحديثة كانت مسلمة ثم تحولت إلى نصرانية بقوة السيف مثلما صار في الفلبين، والفلبين كانت مسلمة وكانت دولتها مسلمة وفيها سلطان مسلم، ويحكم فيها بشرع الله، ثم دخلها الأسبان وحاربوا الإسلام والمسلمين بعنف حتى تحولت إلى دولة نصرانية، حتى إنهم حجبوا الأخبار عن الأجيال حينما كان الاستعمار هو المستولي عليها والاحتلال، فكانوا يحجرون على جهات التعليم والمراكز العلمية والمدارس أن تدرس هذه الحقبة من التاريخ إلى وقت متأخر، كما علمنا أنه بدأت المدارس والمناهج في تلك البلاد يقرأ فيها أنها كانت مسلمة ثم تحولت إلى نصرانية، فمثل هذه البلاد تجد المسلمين إلى اليوم فيها في غربة شديدة.
فهذه الغربة قد لا تكون على البلاد الإسلامية كلها، وأحياناً تكون الغربة غربة السنة وأهل السنة، وتكون بمخالفة الناس من الوجهين، والناس يخالفون أهل السنة، وأهل السنة يخالفون الناس، فربما في بعض البلاد الإسلامية يحكم على صاحب السنة بأنه إنسان مخالف للحق، وربما يرمى بأوصاف الشذوذ والإرهاب ونحو ذلك، وأحياناً بالألقاب مثل الوهابية وغيرها من الألقاب التي يعتبرونها من الأمور المنفرة، فيعيش صاحب السنة في غربة في مثل هذه البلاد وإن كانت إسلامية، وهذا واقع كثير من البلاد الإسلامية اليوم.
فإن صاحب الحق يعيش غربة حقيقية وإن كانت البلاد مسلمة، وأحياناً الغربة قد تعني المشقة في العمل بالعمل بالسنة حتى بين المنتسبين لأهل السنة، العمل بها على الوجه الشرعي الكامل قد يكون فيه مشقة كما هو حاصل اليوم حتى في البلاد التي أهلها هم أهل السنة، فإن الذي يريد أن يأخذ السنة بحذافيرها قد يعيش غربة، لكنها ليست الغربة الكبرى أو الغربة التي تنطبق عليها أغلب هذه الأحاديث لكنها نوع من الغربة؛ لأن الناس الآن قد يكون لهم جرأة على من يعمل بالسنة وإن كان معه الدليل؛ وذلك لأنه خالفهم أو خالف ما هم عليه.
كما أن الغربة قد تكون غربة الإسلام وقد تكون غربة السنة، أما غربة الإسلام فلا شك أن المسلمين تمر عليهم فترة من فترات التاريخ مثل عصرنا هذا، قد يكونون أقل عدداً من عموم الكفار والمشركين، فإذا صاحب هذا شيء من الضعف فإننا نجد أن المسلمين اليوم في جملتهم أمام العالم يعيشون غربة فعلاً؛ لأنهم وإن كانوا كثرة لكنهم كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم:(كغثاء السيل)، وثبت في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلمين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود إزاء الأمم المشركة، فهذه الغربة إذا اجتمعت معها الغربة المعنوية كما هو حاصل اليوم فقد يكون أهل الإسلام عموماً في نوع من الغربة وهذا حاصل، أما غربة أهل السنة فهي ظاهرة، غربة أهل السنة في سائر البلاد الإسلامية اللهم إلا القليل مثل هذه البلاد نسأل الله أن يثبتنا على السنة.