للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[احتجاز التوبة على صاحب البدعة]

أما المقطع الثاني فيما يتعلق باحتجاز التوبة على صاحب البدعة، فقد فسره الإمام أحمد وفسره سائر السلف، فلا يقصد بذلك أن صاحب البدعة لو تاب أن الله لا يتوب عليه، بل العكس فالله عز وجل يتوب على المشرك وعلى من هو أعظم من صاحب البدعة ذنباً، لكن القصد بقول السلف: (إن الله احتجز التوبة)، أي: لا يوفقه للتوبة، ولذلك أسباب، منها: أن صاحب البدعة يزين له سوء عمله، فيتوهم أن عمله حسن وليس بحسن، والإنسان إذا توهم أن عمله حسن لا يتطلع إلى أن يخرج من هذا العمل أو يتوب منه، بل يتمسك به، كما قال الله عز وجل: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:٨]، وهذا من عدم التوفيق من الله عز وجل.

إذاً: ليس المقصود كما يفهم بعض من أثار هذه الشبهة وقال: إنهم يزعمون أن صاحب البدعة لا تقبل له توبة، وهم ما قالوا: لا تقبل له توبة، وحتى لو قالوا هذه العبارة فلا يقصدون أنه لو تاب لا يتوب الله عليه، وإنما يقصدون أنه لا يوفق للتوبة، وهذا أمر مستفيض عند السلف، وليس من الأمور التي اخترعوها من عند أنفسهم، بل هذا هو مقتضى النصوص، ومقتضى استقراء الواقع، ويندر أن صاحب بدعة يتوب، خاصة دعاة البدع، أما الأتباع والهمج والرعاع فهؤلاء ليس لهم حكم؛ لأن قلوبهم ليست مؤصلة للبدعة، بل فطرهم وقلوبهم قابلة للحق، فمتى ما سمعوا بالحق رجعوا إلى الحق، وهذا لا يسمى أصالة صاحب بدعة، بل هذا تابع، لكن القصد هنا هم الزعماء والكبار والمنتفعون بالبدع أو رءوس البدع والدعاة إليها، فهؤلاء لا يوفقون، ولذلك لا نسمع في تاريخ الافتراق والأهواء والبدع بأن أحداً رجع من هؤلاء الرءوس إلا ما لا يتجاوز العشرات إذا بالغنا في التمحيص، وإلا فلا نعرف من مشاهير أهل البدع والأهواء الدعاة القائمين على البدع ما يزيد على أصابع اليد الكبار، مثل الأشعري والجويني والرازي والغزالي ومن يشابههم، فهؤلاء من كبار أئمة أهل الكلام، ومن دعاة البدع والمؤصلين للبدع، فهؤلاء تابوا ورجعوا لكنهم ندرة، ولهم من الفضل والعلم والفقه ما جعل الأمر يكون سبباً لتوبتهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الإصرار الكامل، كانوا رواد حق، والله أعلم أن نياتهم صالحة رغم ما وقعوا فيه من أخطاء، وكانوا يعظمون العلم الشرعي والدين، ولهم من الفضائل ما يتوقع أنهم يوفقون للتوبة، لكن هؤلاء ندرة وقلة.

أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه)، فهذا أحسن وصف لأهل الأهواء، وهو من الدلالات الظاهرة على ما قال به السلف من أن الله احتجز التوبة على صاحب البدعة.

إذاً: ليس قولهم -أي: قول السلف بأن صاحب البدعة لا يتوب- جاء من فراغ، إنما جاء من الاستدلال بمثل هذا النص، ومن استقراء الواقع.

<<  <  ج: ص:  >  >>