[تأملات في حديث حذيفة:(كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني)]
ثم ذكر حديث حذيفة رضي الله عنه في مسألة موقف المسلم من الفتن إذا كثرت، ومن غربة الإسلام إذا صارت، وقد كثر كلام أهل العلم حول هذا الحديث وما الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أخبر وأوصى حذيفة ووصى بعض الصحابة بمثل هذه الأمور أوصاهم على أمر سيكون، لكن إذا تأملنا الوصاية التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وجدناها تخصص بأحوال؛ لأن هناك نصوصاً أخرى تفسر معاني هذه الوصاية، فلو تأملنا قوله صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن الشر الذي كان قبل الجاهلية وهل سيحدث مثله أو سيعود مرة أخرى:(فهل بعد هذا الخير) أي: هذا الإسلام الذي جاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل (هل بعده من شر؟ قال: نعم) وبهذا نفهم أنه ليس المقصود بالشر عودة الجاهلية بكاملها لكنه شر نسبي، وهذا التفسير يشمل نصوصاً وأخباراً كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: نفي الإسلام عن بعض الأحوال، ونفي الإسلام عن بعض الأشخاص، ونفي الإسلام عن بعض الفئات، لابد أن يخصص لما جاء له، كذلك سيكون شر لكنه نسبي فتنة أو فتن تقع لكنها لا تزيل جذور الإسلام ولا تستبيح بيضة الإسلام والمسلمين، إنما هو أمر جزئي يقع لفتنة عارضة أو لأمور تحدث في بعض فئات المسلمين دون البقية، ودليل ذلك: الأخبار المؤكدة بأن الله عز وجل سيحفظ هذا الدين، والأخبار المؤكدة بأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، حتى مع وجود الشر النسبي الذي سيكون على طوائف من الأمة أو يكون في أحوال تكون الفتنة هي السائدة، ولكن هذه ومضات وإلا فالخير باقٍ إلى قيام الساعة وإلى أن يقاتل المسلمون الدجال كما في آخر الحديث.
إذاً: لابد من تخصيص مثل هذه النصوص التي تحكي وجود الشر، وهيمنة الفتنة والغربة لابد من تخصيصها بالنصوص الأخرى وتفسيرها بالنصوص الأخرى.
ولذلك لما قال:(وهل بعد الشر من خير؟) معناه أنه يمر على الأمة مراحل تسود فيها الفتن ويسود فيها بعض الشرور، لكن تبقى جذوة السنة وتبقى الطائفة المنصورة ويبقى الحق ظاهراً بيناً كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:(تركتكم على المحجة أو على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، فهذه البيضاء معناها أنها كالشمس الطالع لا تغيب فالشمس الظاهرة لا يمكن أن تخفى على الناس، (فقال: نعم، وفيه دخن)، فلو أخذنا أنموذجاً لتطبيق هذا الحديث لوجدنا أنه بعد هذا الحديث حدثت فتنة في عهد عثمان رضي الله عنه وهذه الفتنة صار فيها شيء من الأمور التي جعلت بعض الصحابة لا يستطيع أن يجزم بالحق في أمر ما حدث بين الأمة فوقفوا؛ فمنهم من أخذ بهذه الوصية واعتزل؛ لأنه لم يستبصر الأمر فاعتزل لكن هذا الاعتزال لم يحكم الأمة كلها، فمن الصحابة من استبصر الأمر وصار الأمر عنده واضحاً كما حدث من علي رضي الله عنه ومن كانوا معه، ومنهم من تأول كـ معاوية رضي الله عنه ومن كان معه، ومنهم من قال: لا أدري؛ لأن هؤلاء صحابة وهؤلاء صحابة وليس عندنا ما نجزم به، وهؤلاء يريدون الحق ولا نستطيع أن نتهم دين أحد، فهؤلاء عملوا بمقتضى الحديث في ذلك الوقت المبكر.
لكن أثناء تطبيقهم لمقتضى الحديث: هل زال الإسلام وزالت السنة؟ لا، الإسلام كان قوياً والسنة كانت ظاهرة، لكن بعد هذه الفتنة وبعد انجلائها تبين الأمر أكثر من قبل، وأعقبها خير، والخير الذي فيه الدخن هو ظهور الفرق.
فالخير يكون فيه دخن ولبس وخلط، أي: يعرفون فيه نوعاً من المخالفات والبدع، ويكون الناس يرجعون للإسلام ولكن يبقى مخالفات البدع في طوائف من الأمة وليس في كل الأمة، ولذلك ينبغي أن نحذر من تفسير بعض المعاصرين لهذا الحديث حين قال: يجب أن نقبل من المسلمين ما هم عليه، فصاحب البدعة نقبل بدعته، وصاحب الفساد والفسق والفجور نقبل منه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه سيعود الخير وفيه دخن، فلابد أن نقبل ما عند الناس ولا داعي أن نقول: السنة هكذا أو الحق هكذا أو النهج الذي كان عليه السلف هو الذي ينبغي أن يلتزم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الحق أو الخير يعود وفيه دخن! نقول له: لا، هذا فقه قاصر، فليس كل الحق يكون فيه دخن، إنما معنى ذلك أنه بعد الفتن وبعد ما يحدث على الأمة أحياناً في بعض الظروف تخرج طوائف من الأمة عن السنة، فهذا الدخن في مجموع الأمة لا في كلها، فبعد الفتنة على عثمان رضي الله عنه وبعدما حدث الشجار بين الصحابة ظهرت فرق، وهذه الفرق هي الدخن، لكن بقية المسلمين على السنة وليس في عقائدهم لبس، ولا عندهم دخن في الدين، بل كانوا على السنة الظاهرة.
ثم فسر الدخن، (قال: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر) وهم أهل البدع والظلم والفسق والفجور وهذا يدل على أن