ثم ذكر حديث جرير:(أن رجلاً تصدق بصدقة ثم تتابع الناس)، والحديث يمثل قاعدة عظيمة من قواعد الشرع:(أن من سن سنة حسنة)، أي: من عمل بسنة من سنن الإسلام؛ لأنه لا يمكن أن تكون سنة حسنة إلا والإسلام جاء بها؛ لأن الله عز وجل أكمل الدين، والعكس:(من سن سنة سيئة)، يعني: ابتدع بدعة، (فعليه وزرها ووزر من عمل بها)، وهذا الحديث يقلبه أهل الأهواء بالاستدلال على مشروعية البدع، وقالوا: إن البدع الحسنة مشروعة، بدلالة هذا الحديث، وأنها تدخل في السنة الحسنة، فمن ابتدع صلاة أو تسبيحاً أو صدقة أو نحو ذلك مما لم يشرع فكل ذلك داخل في الحسن، فيكون ابتداعه من السنة الحسنة، ولا شك أن هذا قلب للحقائق؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين النوعين.
وأيضاً: أن السنة الحسنة لا يمكن أن تكون حسنة إلا وقد أقرها الشرع، فإذا أقرها الشرع فالأصل أنها مشروعة، لكن الإنسان قد يبدع في الوسيلة، فمن سن سنة حسنة، أو وسيلة تؤدي إلى أمر مشروع، وعلى سبيل المثال: المؤسسات الخيرية كلها من السنة؛ لا بذاتها وإنما لأنها أدت إلى العمل بالسنة، والعمل بمقتضى الإسلام بتعاون المسلمين، ومن التعاون على البر والتقوى، ومن نشر المبرات والخيرات بين الناس، والعلم النافع والصدقات وتعاضد المسلمين بينهم.
إذاً: الوسيلة المؤدية إلى تطبيق السنة تعتبر سنة حسنة، ولذلك فإن كل من أحدث مشروعاً خيرياً انتفع به المسلمون وصار فيه قدوة فقد سن سنة حسنة؛ لأنه جاء على مقتضى السنة.
وأيضاً: قد يرد أن السنن تنسى أحياناً ويغفل عنها، فمن أحياها فقد سن سنة حسنة، والدليل على هذا ما في الحديث نفسه:(أن رجلاً تصدق بصدقة)، والصدقة من السنن التي سنها الله وسنها رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذا الرجل إنما عمل عملاً أدى إلى دفع الناس إلى العمل بالمشروع، فعمله الذي هو سنة حسنة من أداء الصدقة، وفعل الصدقة، فهو قام بوسيلة إلى عمل الخير، ولم يحدث عملاً جديداً، ولم يكن هو المشرع للصدقة، أو ابتدع حكماً شرعياً لا في العقيدة ولا في الشرع، إنما عمل بمقتضى ما أمر به الله وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم على وسيلة أو بفعل كان فيه قدوة، وكذلك بقية النصوص:(من دعا إلى هدى)، ثم قال:(من دعا إلى ضلالة) والمعنى واحد.