[الإسلام دين السنة والفطرة]
قال رحمه الله تعالى: [وفيه حديث الخوارج وقد تقدم.
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما أوليائي المتقون)، وفيه أيضاً عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكر له أن بعض الصحابة قال: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أُفطر، فقال صلى الله عليه وسلم: لكنني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فتأمل إذا كان بعض الصحابة لما أراد التبتل للعبادة قيل فيه هذا الكلام الغليظ، وسمي فعله رغوباً عن السنة، فما ظنك بغير هذا من البدع، وما ظنك بغير الصحابة؟].
في هذه الأحاديث فوائد تتعلق بأصل الكتاب وما تفرع عنه من الأمور التي ذكرها في الأبواب السابقة، والتي سيعيدها فيما بعد أيضاً.
ويريد الشيخ بسياق هذه النصوص أن يبيّن أن من فضل الإسلام أنه دين السنة ودين الفطرة، وأن الإسلام يتميّز بأنه نقي صافٍ وأنه البيضاء التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسلوكها لا يزيغ عنها إلا هالك، وأن البدع والمحدثات ليست من الإسلام، وأن الذين وقعوا في البدع والمحدثات في الدين وخالفوا السنة فمخالفتهم طعن في أصل الدين وفي أصل تمام الدين، وأن الله عز وجل ميّز الإسلام بالحفظ وبالكمال بحيث لا يحتاج إلى تجديد أو ابتداء، كما أن الله عز وجل ميّز الإسلام بالشمول.
والشيخ رحمه الله بدأ الأحاديث بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما أوليائي المتقون) يشير بذلك إلى أن الإسلام يتضمن ولاية الله، وأن المسلم ولي لله، وأن شرط هذه الولاية هي التقوى، فلا تنال ولاية الله إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهذا من خصائص الإسلام أنه لا تصح فيه دعوى التقوى إلا بأن يظهر ذلك على أمر المسلم وفي قلبه، وأن هذا يعني أن الإسلام من كماله أنه يشمل صلاح القلوب وصلاح الأعمال، وأنه ليس مجرد دعوى، فالإنسان لا ينال ولاية الله عز وجل بالدعوى.
ثم ذكر الحديث الذي فيه قصة بعض الصحابة الذين مالوا إلى التبتل تعبداً لله، هؤلاء الذين أرادوا أن يحرموا أنفسهم أو يشددوا على أنفسهم في بعض الأمور ما ورد على أذهانهم مسألة الابتداع، إنما الذي كان يرد على أذهانهم صريحاً أنهم أرادوا أن يعبدوا الله عز وجل على أصول موجودة في الدين، لكن على غير ما أمر به الشرع تفصيلاً، أي: أنهم أخذوا بمجملات الدين لكن على غير ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم على جهة التفصيل؛ وهذا يدل على أن الدين لا بد أن يؤخذ جملة وتفصيلاً، فلا يقال: إن مبدأ الصيام مطلوب شرعاً، فأنا إذاً أصوم الدهر كله! نقول: إن جنس الصيام مطلوب شرعاً في الجملة، لكن لا يجوز أن تصوم أو تشرع صياماً على جهة التفصيل إلا بأمر شرعي.
حتى ولو كان يوماً واحداً تتعبد به دون أن يكون لهذا اليوم أصل شرعي؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز للمسلم أن يزيد فيها ولا ينقص، ومنها ما هو مقيد ومنها ما هو مطلق، والمطلق له ضوابط أيضاً، فالنوافل بعضها مطلقة، لكن إطلاقها يكون وفق ضوابط شرعية لئلا يتعبد الإنسان بوقت دائم ويشرعه للناس، وأن لا يزيد في الصلاة بما يشغله عن واجبات أخرى، أو عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك.
فهؤلاء الصحابة الذين فعلوا ما فعلوا كان قصدهم الخير وكانوا ينهجون على أمور لها أصل في الإسلام، لكنهم شرّعوا تشريعاً تفصيلياً لم يرد به الإسلام بل يتنافى مع قواعد أخرى للشرع، فصيام الدهر لا شك أنه يؤدي إلى الإخلال بواجبات أوجبها الله عز وجل على المسلم، والتبتل وترك الزواج يؤدي إلى ترك أمر أوجبه الله على العباد وهو التناسل، والحقوق المتبادلة بين الناس والرحم وغير ذلك، والقيام دائماً يحجب الإنسان عن أن يقوم بواجبات سائر النهار؛ لأنه إذا سهر الليل للقيام فلا بد أن يأخذ قسطه من النوم كسائر البشر، فهذا يؤدي إلى الإخلال بواجبات أوجبها الله عليه من طلب المعاش، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومعايشة أمور الناس ومخالطتهم على وجه شرعي.
إذاً: هناك نتيجة نستفيدها عند تطبيقنا على مناهج الناس وهي: أنه تبين بالاستقراء أن الكمل من الرجال أولو العزائم ليسوا هم الذين يتفرغون للعبادة، ولا لنوع واحد من أنواع الطاعات والقربات، وليسوا هم الذين يقبلون على الدين ويهجرون الدنيا، أو يعتزلون الناس تعبداً لله، مع أن هذه المناهج فردية قد يُمدح بعض الناس فيها، لكن ليست هي الأمثل للمنهج السليم في اقتفاء السنة، لأن اقتفاء السنة يقتضي أن المسلم يعبد الله عز وجل ويقوم بالفرائض والنوافل على الوجه الذي يناسب حاله وواجباته ووقته ثم يقوم بالأمور الأخرى، بمعنى أن يسد عملاً من أعمال المسلمين بحسب قدرته واستطاعته، وبمعنى أن يسد حاجة نفسه ومن حوله في أمور الدنيا فلا يبقى عالة على الآخرين، وأن يسهم في أعمال الخير ويسابق إليها جملة