للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[موافقة الإسلام للفطرة وسهولة أحكامه ومسائله]

كتوجيه عام: فإن الإسلام معرفة وعبادة جاء على الفطرة وعلى أصول العقل، وجاءت محكماته في العلم والمعرفة أو في العمل والتعبد كمسائل لا تستدعي محاولة وتطويلاً في الاجتهاد.

وهذا يظهر في الصحابة زمن النبوة وزمن الاستجابة الأولى، فقد كان الإسلام أصوله ومعانيه -ولا سيما المعاني المحكمة، كأصول العلم والإيمان المتمثلة في الإيمان بالله وملائكته

إلخ، وأصول العمل كالصلوات الخمس والجمعة ورمضان والحج وأصول الأخلاق، وأصول المعاملات- كان يفقهها الصحابي المقارب للنبي صلى الله عليه وسلم من الخلفاء وأئمة الصحابة، وكان يعرفها ويفقهها كذلك الأعرابي الوافد، كان يعرفها بسيط العلم، وكبير العلم، الصغير والكبير، والذكر والأنثى، ولم يكن في زمن النبوة تفسير الإسلام أمراً مشكلاً.

ولو جمعنا سؤالات الصحابة في مجالس النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنها سؤالات خاصة وسؤالات قليلة، حتى في مسائل النفس وأحوالها كان لدى أئمة الصحابة من الاستقرار والظهور شيء كثير.

وقد حصل في بعض الأحوال -كما في حديث أبي هريرة وابن مسعود في الصحيح- أن أناساً قالوا: (يا رسول الله! إنَّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان) وهذا ليس إشارة منه إلى طلب هذه الدرجة، فإن هذه الدرجة لم تحصل لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بل لم تحصل لرسول الله وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وحصلت لبعض المؤمنين صادقي الإيمان لكنهم دون درجة الصديقين وأئمة الصحابة المقدمين كالخلفاء الأربعة، ومع ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ذلك صريح الإيمان) من حيث أن الشيطان انقطع عن التأثير في الحقيقة فرد الله كيده إلى الوسوسة، كما في رواية ابن مسعود: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).

فلم يكن عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم إشكال، بل حتى الأعراب الذين كانوا يفدون كانوا يفقهون الإسلام فقهاً مباشراً، وبهذا يتبين أن تحويل الإسلام في القرون التي مضت أو في هذا العصر في طريقة تعبده أو في معارفه وعلومه وعقيدته إلى نوع من التطويل والتعقيد، سواء الذي تمثل في نظريات المتكلمين حتى كتبوا نظريات لا يستطيع أن يستوعب ما فيها المتعلمون فضلاً عن العامة، وكذلك في مسائل التعبد بطرق متكلفة مرتبة لا يستطيع أن يسلك السالك فيها وحده، فأولى للمسلمين خاصة وعامة في كل مكان من أرض الإسلام أن يقصدوا إلى ترك التعصب للأسماء والطوائف، وأن يقصدوا إلى التعصب لمن لا يجوز التعصب شرعاً إلا له من الأشخاص وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو الاقتداء باسم القرآن، فيقتدوا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدوا إلى سنته الصحيحة المحفوظة، ويتباعدوا عما ليس معروفاً عنه عليه الصلاة والسلام في كتب الحديث المعروفة عند المسلمين، كالكتب الستة ومسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك وأمثالها.

وإن كان قد يقع في السنن أو المسند أو الموطأ ما لا يكون من الصحيح، لكن في الجملة أن هذه الكتب السبعة وموطأ الإمام مالك هي دواوين الإسلام الجامعة للسنة، بخلاف بعض الكتب المتأخرة التي غلب عليها المتروك أو الموضوع، مما أدخل في كتب كثير من شيوخ الصوفية، وإن كان كثير منهم قد لا يكون عارفاً بذلك.

ومثال ذلك: أبو حامد الغزالي رحمه الله، فإنه مع علو درجته في العلم، فهو فقيه شافعي وأصولي من كبار الأصوليين، وله معارف وعلوم معروفة في الإسلام، ومع ذلك نجد أنه يستدل بموضوعات، حتى إنه قال عن نفسه -ولم يقل هذا عنه غيره-: أنا مزجى البضاعة في الحديث.

فنجده يأتي بالصحيح والضعيف وأحياناً يأتي بالموضوع، لكن مع ذلك في كلام أبي حامد خير كثير لمن أحسن القصد إليه والوصول إليه.

ولذلك لما سئل شيخ الإسلام عن كتابه إحياء علوم الدين قال في جوابه: "أما الإحياء فغالبه جيد، لكن فيه ثلاث مواد فاسدة، فيه مادة من ترَّهات الصوفية -الترهات أي: شبه الأساطير- ومادة من الأحاديث الموضوعة، ومادة فلسفية"، وهي من تأثر أبي حامد بالفلسفة التي كان إماماً في الرد عليها.

هذا جملة التعليق على ما يتعلق بطبقات الصوفية، ومقصود هذا التعليق أن الداعي إلى السنة والجماعة يجب أن يكون داعياً بعلم وعدل، وأن من انتسب لهذا الاسم -يعني: التصوف- يجب عليه أن يكون قاصداً لاتباع الكتاب والسنة وهدي السلف الأول من الشيوخ والعباد الصالحين الذين كانوا على مقصدٍ بين، وعناية بينة في اتباع ما هو معروف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، وقد ذكرت لذلك أمثلة من الشيوخ المتقدمين المسمين بالتصوف، كـ إبراهيم بن أدهم، وسهل بن عبد الله التستري، والجنيد بن محمد، وإن كان الأبين شرعاً-إنما نقول هذا الكلام لأن التعصب والإلف استهلك نفوس كثير من العامة- والأوجب أن التعبد يكون بما مضى به الدليل من كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم أن يكون من مشكاة فلان أو فلان من الناس، فإن التعصب للأعيان -حتى لو كان للصالحين الأبرار- لا يصح.

إنما الذي يتعصب له هو الحق الذي بعث الله سبحانه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ ولذلك كان من فقه الأئمة المتقدمين رحمهم الله أنهم إذا أجمع الصحابة أخذوا بإجماعهم، وإذا اختلف الصحابة إما أنهم يتخيرون في اختلافهم، وإما أنهم يقيسون المسألة، ويقيسون أحد قولي الصحابة بما هو الأشبه بأصول الشريعة.

فليس المقصود أن يصحح الانتساب مطلقاً، ولكن الاقتصاد في التصحيح أيضاً مطلوب من حيث الحكمة والعدل، وإلا فإن من انتسب لأشرف الأسماء، وهو الإيمان والإسلام الذي وصف الله به الأنبياء، فلا نعلم نسبة في شرع الله، بل وليس في الكتاب المنزل اسم أشرف من هذين الاسمين وما رادفهما، مما ذكره الله سبحانه أو سمى به أولياءه؛ فإن الله تعالى سمى إبراهيم عليه السلام مسلماً، ولما ذكر الله درجات المؤمنين قال: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:٦٩] هذه هي الأسماء الشرعية التي ينبغي للمسلمين أن يقولوا بها، وهي: اسم الإيمان والإسلام والصديق والشهيد والصالح والولي وما إلى ذلك.

أما الأسماء المبتدعة والمصطلحات المبتدعة في الإسلام فهذه لا تزيد المسلمين خيراً ولا قرباً إلى السنة، ولا إلى هدي أصحاب الرسالة عليهم الصلاة والسلام، وإمامهم الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>