للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اجتهاد بعض الخاصة في ترتيب منازل الشريعة]

الصورة الثالثة من صور الاجتهاد التي دخلت على الخاصة منهم، وهي من صور الاجتهاد المخالف لقواعد الشريعة، ونسميها: اجتهاد بعض الخاصة في ترتيب منازل الشريعة؛ فإن الصورة الأولى والثانية هي التي ترسم الأعمال المفردة الخاصة من الأحوال والمقامات، إما الظاهرة وإما الباطنة في السلوك، فوجد لدى الخاصة إشكال في ضبط هذه الأعمال والحركات والأحوال والمقامات؛ إما لموجب اجتهاد مع النص، وإما لموجب اجتهاد في فقه النص على غير قواعد الشريعة، فوجدت عندهم كثير من الأحوال القلبية والحركات الظاهرة التي لا أصل لها شرعاً: إما مطلقاً وإما من حيث التطبيق الخاص.

فالذي لا أصل له مطلقاً كالرقص والحركات المفتعلة التي لم توجد زمن النبوة لا بشكل ولا بآخر، فهذه -وإن قال من قال: إنه يحصل تحتها حضور قلبي أو ما إلى ذلك- لا أصل لها في هدي المرسلين ودينهم، بل بعض الحركات التي يفعلها الغلاة من هؤلاء أحياناً تكون أشبه بالخرافات والأساطير، وإن كان مقتصدوهم وعارفوهم برآء من هذه الأحوال.

والصورة الثانية: أن تكون عبادة لها أصل شرعي، ولكنها من حيث التطبيق الخاص لا دليل عليها، كبعض تطبيقات الذكر وما إلى ذلك.

أما الصورة الثالثة من صور الاجتهاد فنسميه: اجتهاد بعض الخاصة في ترتيب منازل الشريعة؛ فإن الشريعة لها منازل، أجلُّها معرفة الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة، هذا هو أجل مقامات الشريعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس)، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه المتفق عليه: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى)، ولما ذكر الإيمان قال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته) ..

إلخ، وقال: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) ولما ذكر الله سبحانه أهل الإيمان قال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:١ - ٢]، فذكر أصول المنازل، ولما قال الله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:١٣٣] بين صفات المتقين وهي المنازل العالية، ولما ذكر: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:١١١] جاء في صفتهم: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} [التوبة:١١٢]

الآية.

فواضح من سياق نصوص الكتاب والسنة أن الشريعة لها منازل، وأن منازل الناس تكون بحسب تحقيقهم لمنازل الشريعة؛ فإن الله سبحانه لم يجعل المؤمنين وجهاً واحداً، بل قال سبحانه: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:٦٩] ..

الآية، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:٣٢].

إذاً: لا خلاف في أن الشريعة منازل، وأجل منازلها معرفة الله وعبادته، وهذا ما تجمعه كلمة التوحيد وهي شهادة أنه لا إله إلا الله؛ فإنها تضمنت معرفة الله وإفراده في العبادة.

فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) تدل على توحيد الألوهية؛ لأنها كلمة تتضمن الإقرار بربوبية الله سبحانه وتعالى والإقرار بألوهيته؛ فمن شهد أنه لا إله إلا الله وحقق هذه الشهادة فإنه يكون مفرداً لله سبحانه وتعالى بالعبادة، فإن معناها: لا معبود بحق إلا هو سبحانه، ومن عبد الله وأفرده في العبادة فقد آمن بربوبيته، فتكون الربوبية متضمنة لتحقيق الألوهية.

وأهل العلم يقولون: توحيد الألوهية يتضمن الإقرار بالربوبية، وتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، ولذلك لما أقر المشركون بجملة الربوبية جاء سياق القرآن ملزماً لهم بالإقرار بتوحيد الألوهية.

فمن الغلط أن تجعل هذه الكلمة في مفهوم الربوبية، وهذا الغلط هو ما فسر به كثير من المتكلمين كلمة الشهادة، فقالوا: معناها: لا خالق إلا الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى هو الإله المعبود بحق، وإذا كان هو الإله المعبود بحق، فهذا يتضمن الإقرار بكونه هو الخالق والرب والمالك والمدبر.

إذاً: نقول: الصورة الثالثة من صور الاجتهاد المخالف الذي دخل على بعض خاصتهم: الاجتهاد في ترتيب منازل الشريعة على غير المنهج الذي اطردت به نصوص الكتاب والسنة.

ومن الأمثلة المبسطة لهذا: أن أخص ما يقرب العبد إلى الله هو أداء الفرائض، كما ثبت في الصحيح في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه)، فأخص القرب هي الفرائض، وأخص الفرائض العملية هي الصلوات الخمس ..

وهلم جرا.

فإذا غلب على قوم أنهم يعنون بشيء من الأحوال التي قد تكون مبتدعة، أو قد لا تكون مبتدعة ولكنها ليست من الرتب العالية في الشريعة، واشتغلوا بها عن العبادات الشرعية -سواء كانت من عبادات الباطن أو عبادات الظاهر، أي: من عبادات القلب أو عبادات العمل- فإن هذا اختلاط في ترتيب منازل الشريعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>