للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الاقتداء المشروع أو التقليد الجائز]

قبل أن نتكلم عن بعض صور التقليد والتعصب في باب السلوك، نذكر مسائل:

المسألة الأولى: الاقتداء المشروع أو التقليد الجائز هذه وجدت زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا أهل علم إلا أنهم مراتب، وقد وجد في تاريخ الصحابة وفي هديهم رضي الله تعالى عنهم التعظيم لبعض أئمتهم أكثر من بعض، فكان من كثير من الصحابة عناية بكلام أبي بكر وكلام عمر، وفقه علي وعثمان، وفقه زيد في الفرائض، وعلم معاذ بن جبل بالحلال والحرام ..

وما إلى ذلك، وكان الصحابة يسألون أئمتهم، كما كانوا يسألون أم المؤمنين عائشة عن بعض خواص النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فكان هذا جزءاً من السؤال في العلم، وهو جزء من الاقتداء، وقد يكون من التقليد الجائز الذي عرض في سيرة الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

ومن الأمثلة على ذلك:

ما جاء في الصحيح لما أقبل أبو موسى رضي الله تعالى عنه في الحج فأفتى الناس في مسائل، وكان عمر رضي الله عنه -وهذا في خلافته- يفتي الناس بغير ذلك، فلما سمع أبو موسى بهذا قال: أيها الناس! من كنا أفتيناه بشيء فليتأد؛ فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتموا.

فترك أبو موسى بعض الذي كان يراه هو الأقرب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتهاد عمر رضي الله تعالى عنه وراعى في ذلك مقام الخليفة عمر رضي الله تعالى عنه.

وكذلك ما جاء في وقوف بعض الصحابة في بعض المسائل عن إظهار المخالفة، كإتمام عثمان رضي الله تعالى عنه، فاقتدى به ابن مسعود اقتداءً معيناً وليس اقتداء مطرداً، والاقتداء المعين هنا أنه صلى خلفه تماماً؛ لأن الإتمام جائز، وترك به السنة، ولما قيل لـ ابن مسعود في هذا قال: (إن الخلاف شر) فقد وجد في هدي الصحابة ما هو من الاقتداء المشروع وفي بعض الأحوال ما هو من التقليد الذي يسمى في الشريعة جائزاً، لكن هذا التقليد الذي عرض لبعض الصحابة لا يكون حالاً عامة، وإنما يكون في وجه معين أو واقعة معينة؛ لمصلحة ولحكمة كلية أو شرعية راجحة، كتحصيل الاجتماع، وترك الافتراق، وما إلى ذلك.

أما التقليد بغير علم، والتقليد بما يعلم أنه منافٍ للشريعة وتجويزه فضلاً عن التعصب، فإن هذا لم يكن من هدي أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأما من بعد الصحابة فإنه في المائة الثانية ظهرت بعض مقدمات التعصب في مسائل السلوك، وقد سبق ذلك فيما يتعلق بمسائل العقائد التي بدأ الانحراف فيها في آخر خلافة الخلفاء الراشدين، ومن هنا يمكن أن نقسم ما يتعلق بالتعصب إلى وجهين:

الوجه الأول: ما هو من الميل العام الذي لا يصل إلى درجة الانتظام والتحيز المطلق، فهذه أحوال عرضت في أواخر عهد الصحابة، وفي المائة الثانية.

أما في المائة الثانية فإنه لما ظهر السلوك صار بعض الأصحاب والمريدين والعامة، يعطون مشايخهم بعض الاختصاص والإجلال والتسليم والتبعية ما ليس مشروعاً، لكن هذا لم يكن شأناً منتظماً تحت اسم طائفي، أو تحت تجمع مدرسي ينتسب إليه.

ثم ظهر في الإسلام ما يمكن أن نسميه -وهذا هو الذي يعيشه المسلمون من قرون، وهو من أشكل ما قام في تاريخ المسلمين- التعصب المنظم، ونقصد بمصطلح التعصب المنظم: التحيز والاختصاص بمدارس معينة، إما في باب العقائد، وإما في باب السلوك، وينتهي سند هذه المدارس والطوائف إلى أعيان، أي: أسماء رجال عرضوا في تاريخ الإسلام، ومعنى أنهم عرضوا في تاريخ الإسلام أي: أنهم ينقطعون إلى سنة ما في تاريخ الإسلام، حتى لو كانت هذه السنة في أثناء المائة الثانية أو في أواخر المائة الأولى أو ما إلى ذلك.

وقد يقول قائل: إنه ظهر من التقليد المنظم ما يتعلق بمسألة المذاهب الفقهية.

فأقول: إن ما يتعلق بالمذاهب والمدارس الفقهية شأنه دون ما يتعلق بمسائل العقائد ومسائل السلوك التي انتظمت عند البعض على أوجه من العقائد والاختصاص العقدي.

وهذه الأوجه الثلاثة وهي: العقائد والسلوك والفقهيات، نجد أنه من حيث الاقتضاء الشرعي -أي: التجويز الشرعي- ومن حيث الاقتضاء الممكن عقلاً أن الفقهيات هي الأولى أن تظهر ابتداء، أي: التي لو ظهرت مبكرة لما كان في ظهروها كثير من الإشكال.

لكن المفارقة في تاريخ المسلمين أن أول تعصب وتحيز واختصاص ظهر هو فيما لا يسع التحيز فيه والاختصاص، وهو باب العقائد، ثم جاء بعده الاختصاص والتحيز في باب السلوك، ثم آخر ما ظهر التحيز أو الاختصاص الفقهي.

<<  <  ج: ص:  >  >>