للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التمذهب الجائز]

إذا كان التمذهب على معنى التراتيب على أصول إمام معين من المجتهدين الأوائل في فقه الاستنباط، فالتمذهب الذي يقتصر على هذا الوجه تمذهب جائز، لا نقول: إنه مشروع شرعية خاصة، لكنه جائز؛ لأن القول بأنه مشروع يلزم منه جعل باب الاجتهاد ليس مشروعاً أو ليس فاضلاً، وهذا هو الذي عليه المحققون من المنتسبين للمذاهب الأربعة، فهم متمذهبون، ولكن على معنى التراتيب العلمية، وباب التراتيب العملية ليس له علاقة بمسألة السنة والبدعة، بل إنه هذا اختيار خاص، فإنه من المعلوم أن عقيدة المسلمين وأصول دينهم يستدل عليها بالكتاب والسنة والإجماع، أما مسائل الفروع وما يدخلها من التفاصيل، وما يدخلها من النوازل التي قد لا تتناهى، فإن صريح النصوص لا يجمع هذه الأفعال التي تحدث من المكلفين، يقول ابن رشد: "إن النص له حد أو مجموعة من النصوص نزلت على هذه الأمة وأوحى الله إلى هذه الأمة، أما أفعال المكلفين فهي غير متناهية، وتحته صور، ومن هنا ظهر مصطلح الأدلة المختلف فيها، فما لم يوجد فيه نص أو إجماع فيعمل فيه بقول الصحابة، وإذا اختلف الصحابة فيعمل فيه بقياس، وهو إلحاق الفرع بالأصل، أو قياس الشمول، وإذا لم يوجد نص ولا إجماع أيعمل بالمصطلحة المرسلة؟ وإذا لم يوجد نص ولا إجماع أيعمل بعمل أهل المدينة كما يقوله مالك وجماعة؟

أيضاً: النص نفسه، نجد أن دلالة النص يمكن أن تقسم إلى أوجه، مثل: المنطوق والمفهوم، ثم المفهوم جملة من الصور والدرجات، هل تطرد هذه في العمل والتشريع والحكم أم لا؟ وعلى كل حال هذا باب واسع في أصول الفقه.

فأئمة السلف -ومنهم الأئمة الأربعة- جميعهم متفقون في الفقه أنه يستدل بالكتاب والسنة والإجماع، لكن الاختلاف في المسائل التي ليست صريحة في هذه الأصول الثلاثة، من أين تؤخذ؟

فـ أبو حنيفة له منهج في اعتبار طرق وأصول معينة يستدل بها إذا لم يجد نصاً ولا إجماعاً، ولـ أحمد وكثير من أهل الحديث طريقة، ولكثير من أهل المدينة طريقة، فهذا منطق شرعي مقبول، ووضع شرعي أو حالة وجدت لا إشكال فيها شرعاً، ولما جاء أصحابهم وانتظم علم الحديث، وكتبت كتب المحدثين، وتأصلت الأمور في صدر الإسلام الأول؛ وجد هناك الأصحاب الذين يقتدون بهذا الإمام أو ذاك، فاشتهر هؤلاء الأئمة الأربعة، مع أن أصول أبي حنيفة أو مالك أو أحمد ليست خاصة به، بل ما ذكره أبو حنيفة عليه كثير من الكوفيين، والأصول عند أحمد في قول الصحابي وتقديمه وما إلى ذلك عليها كثير من أهل الحديث، وما عليه مالك عليه كثير من أئمة المدينة النبوية، لكنها ظهرت بأسماء هؤلاء.

فالمنتمي لهذه المذاهب الفقهية -كمن ينتمي للشافعي، أو لـ أبي حنيفة أو لـ أحمد أو لـ مالك - إذا كان انتماؤه على معنى أنه قلد أحد هؤلاء الأئمة في اختياره في الأصول التي يستدل عليها فهذا جائز.

لكن المشكلة اليوم أن البعض يسقطون المذهبية من أولها إلى آخرها وليس هناك بديل منتظم في القواعد الشرعية كمنهج يكون عليه نظام الاستدلال، حتى لا يقع الفقيه أو طالب العلم في الاضطراب، ولذلك نجد أنه عند المتقدمين انتظام في الاستدلال، فتقديم قول الصحابي عند أحمد على جمهور صور القياس كتقديم أبي حنيفة للقياس على كثير من قول الصحابة في بعض المسائل، فهذا له انتظام؛ ولذلك نجد أن طريقته في كتاب الصلاة هي الطريقة في كتاب الزكاة وهي الطريقة في البيوع ..

وهلم جرا.

فلا بد من وجود منهج ينتظم، وهذا موجود حتى عند ابن حزم؛ فإنه لما قال: أنا أنطلق من النص ليس إلا؛ فإن هذا كمبدأ شرعي وسلفي ومفهوم إيماني لا أحد ينازع فيه؛ لأن الناس متعبدون بما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن تحصيل الأحكام الفقهية غير المتناهية من نص الكتاب أو نص السنة لا بد أن يكون له منهج، فالقياس داخل في النص، فهو إلحاق فرع بأصل، ومسألة المنطوق والمفهوم، وأن المفهوم مأخوذ من النص هل يعتبر أم لا يعتبر؟ وهلم جرا.

فليس هناك انفكاك مطلق عن النص، بل حتى في فقه المتقدمين؛ فإنهم صرحوا بقول الصحابي، مع أن قول الصحابي قد يبدو أنه أكثر انفكاكاً عن النص من القياس؛ لأن القياس إلحاق الفرع بأصل لاتفاقهما في العلة، فقد يبدو للبعض -كما بدا لكثير من الكوفيين- أن القياس أولى من كلام كثير من الصحابة، والإمام أحمد كان له اعتبار، وبعض المحدثين كان لهم اعتبار آخر.

على كل حال: هذه مسائل محتملة في التنظير لأصول فقه المسلمين وتشريعهم وعبادتهم؛ لذلك نقول باختصار: من انتحل التمذهب الفقهي كترتيب علمي واختيار علمي فهذا سائغ، والدليل على ذلك إذا أردت مثالاً بسيطاً للإدراك: الآن لو أن شخصاً ما قلد عالماً من العلماء السابقين أو المعاصرين في مسألة معينة، سألهم فأجابوه فاقتنع بجوابهم، مثلاً: قال له: هل أصلي صلاة تحية المسجد في وقت ما؟ فقال: لا، فاقتنع بجوابه، أو قال: نعم، فاقتنع بجوابه بدليل ذكره أو نحو ذلك، فهل يقول أحد: إن هذا من البدعة أو من المحرم أو من المنكر في الإسلام؟ الجواب: لا، بل هذا موجود ولم يزال موجوداً، وهو مقر حتى في القرآن في قول الله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣].

فكذلك الفقيه الحنبلي أو المالكي لما رأى أن أصول مالك في الاستدلال أجود من أصول أبي حنيفة، انتسب إليها حتى ينتظم فقه،

وهكذا.

<<  <  ج: ص:  >  >>