للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ظهور التصوف الفلسفي]

ثم زاد الإشكال -بعد المائة الرابعة- في مسائل سلوك التصوف، فقد ظهر ما يسمى بالتصوف الفلسفي، وصار ممن يشار إليهم في هذا الباب ابن سبعين، والعفيف التلمساني، والحلاج، والسهروردي، وابن عربي في الأندلس صاحب الفتوحات وفصوص الحكم.

هذه ثلاث طبقات في مسألة تفسير السلوك، فكانت الطبقة الأولى تفسيراً يختلف عن الهدي العام المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ثم تحول إلى مصطلحات مولدة في الإسلام لا تستطيع أن تحاكمها إلى نصوص الكتاب والسنة، كمصطلح الكشف والذوق والوجد والبقاء والفناء؛ لأنها غير موجودة فيهما، وإذا وجد بعضها فإنه لم يوجد بنفس المفهوم الذي قصد بالاستعمال.

فإنه عند تفسيرها نجد أن مساغها عند أصحابها ليس على مساغها في لغة العرب، هذا إذا كانت مستعملة في لغة العرب، وإلا فإن بعضها ليس مستعملاً، بل هو من المصطلحات المولدة، وكما أن المتكلمين يستعملون موضوع الصفات ألفاظاً مثل: لفظ الجوهر ونحوه مما لم يكن مستعملاً عند العرب، فهؤلاء استعملوا أيضاً في تفسير العمل وكنهه وحقيقته هذه المصطلحات، وصارت هذه من الرتب التي ترقى بها وترقى إليها وما إلى ذلك.

الدرجة الثالثة في التحول، وهي آخر هذه الدرجات، وقد ظهرت عندما فسر العمل في الإسلام تفسيراً فلسفياً، كما أن المعرفة المتعلقة بالتطبيقات فسرت عند الجهمية والمعتزلة بأثر من أثر المتفلسفة، مما أدى عند الجهمية وأئمة المعتزلة إلى نفي الصفات، فإن هذا لم يكن شأناً من عقل المعتزلة الذي اكتسبوه من قراءتهم لنصوص الكتاب والسنة، بل كانوا يستدلون بدليل الأعراض، ودليل الأعراض يقول عنه أبو الحسن الأشعري: "إنه دليل تلقته المعتزلة من المتفلسفة".

فهذا العقل المستعار الذي دخل على المسلمين بأثر الترجمة، دخل أثر منه فيما يتعلق بجوانب العمل.

هذا إذا أردنا أن نؤصل هذه المراحل، وإن كان يقال: إن التصوف الفلسفي لم يظهر في القرون الثلاثة ظهوراً بيناً، أما القرن الأول فهو أمر بدهي، وكذلك سلامة القرن الثاني، وإنما كانت له بدايات في أواخر القرن الثالث، لكنه جاء في القرن الرابع، ثم في القرن الخامس صار له شيوع واسع من حيث دخول هذا الأثر.

قد يقول قائل: كيف يقال: إن التصوف تأثر بالفلسفة، مع أن المتبادر إلى الذهن أن الفلسفة قضية تتعلق بالأحكام العقلية؟ فنقول: هذا الفهم فهم خاطئ؛ فإن أصحاب الفلسفة التي كانت موجودة قبل الإسلام كانوا على وجهين:

الوجه الأول: فلسفة تتعلق بالعقل وأحكامه.

الوجه الثاني: فلسفة تتعلق بالنفس وأحكامها.

فالفلسفة التي تتعلق بالعقل وأحكامه هي التي دخلت على المتكلمين في معرفة الله ومسائل الإلهيات والصفات ونحوها.

والفلسفة المتعلقة بالنفس وأحكامها هي التي دخلت على من يسمون بمتصوفة المتفلسفة، كـ السهروردي وابن عربي وابن سبعين والتلمساني وأمثال هؤلاء.

فقد كان الفلاسفة القدماء قبل الإسلام من فلاسفة اليونان أو الفرس أو الهند أو غيرهم عندهم النمط العقلاني، وعندهم النمط الرياضي النفسي؛ ولذلك سمي بعض هؤلاء بالفلاسفة كـ السهروردي صاحب نظريات الفيض والإشراق، وأمثاله.

وهذا التأصيل في أثر التصوف كما دخل على المسلمين في مسائل العمل لا بد أن يفقه من حيث اعتبار التحول الذي طرأ.

وهذه المسألة -مسألة طبقات أو درجات الصوفية- يأتي إن شاء الله القول فيها فيما بعد؛ لأن كثيراً من أهل العلم -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - يصف بعض الصوفية بأنهم من صوفية أهل السنة أو صوفية أهل الحديث، أو صوفية أهل العلم، أو يقول: فضلاء الصوفية، أو مقتصدة الصوفية.

كما أنه في استعمال آخر يقول: غلاة الصوفية، أو من المتفلسفة، أو من المتزندقة، أو ما إلى ذلك من الاستعمالات، فهناك جملة من التقاسيم لدرجاتهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>