للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[منهج تصحيح الانحراف في باب السلوك]

هذه الأوجه الخمسة هي التي مثلت صور التعصب، وقبل أن ننتقل عن هذه الجملة وهي التعصب في السلوك أؤكد كلمة سبقت، وهي: أن باب السلوك فيه نسبة من الاجتهاد، وإن كانت الصوفية الغالية رتبت مفهوم السلوك والتصوف على العقائد والتصورات والتصديقات التي ابتدعوها، أو دخلت عليهم من بعض الطرق الكلامية أو الفلسفية أو غير ذلك.

ومن هنا يجب أن لا يبدأ منهج التصحيح لمسائل السلوك بالأقل، بل يجب أن يبدأ التصحيح في الأمور التي تخالف أصولاً شرعية، أما الأمور التي يحتمل شأنها وإن كانت خطأ فهذه يتأخر القول فيها، وأما الأمور التي تقبل الاجتهاد وتقبل التنوع فهذه ينبغي أن يوسع فيها.

ويمكن أن يقال: إن المسائل قد تكون إجماعاً صريحاً شائعاً من أصول الإسلام البينة، فهذه يبتدأ بذكرها، ولا يجامل أحد فيها، وهناك مسائل قد تكون وجهاً من الإجماع عند الأئمة وكبار أهل العلم، لكنها تخفى على كثير من العامة، بل وبعض المتأخرين من أهل العلم، فهذه لا بأس أن يتأخر في تصحيحها، وهي التي قال عنها أبو عبيد: "في أمر قد يقع الغلط في مثله"، هذا مع أن مرجئة الفقهاء خالفوا الإجماع، ولم يكن أبو عبيد رحمه الله مختصراً للحقيقة الشرعية، بل رد على هذا المذهب رداً مفصلاً في كتابه، لكنه أشار هذه الإشارة، ولم يجرد أصحابها، بل قال: "هم من أهل العلم والعناية بالدين".

أما ما كان خطأ محتملاً، وكثير منه يسع فيه الاجتهاد والتعدد، فهذا يتأخر في أمره، وأما المطالبة لأهل السلوك أو أهل التصوف بمطالب حرفية معينة هي اجتهاد لبعض طلاب العلم أو نحوهم، فإن هذه المطالبة في الغالب لا تكون مطالبة حكيمة، فالسير بالفقه، والترقي في التصحيح، وعدم الإقرار على البدع، ومعرفة أوجه التصحيح، والعناية بكليات الشريعة وأصول الدين وأصول العقائد وأصول السلف، هذه هي التي يقصد إلى العناية بها ابتداءً.

وأما ما دون ذلك فيترقى في تصحيحه؛ لأن هؤلاء العامة ألفوا كثيراً، وقد ترفق أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام في دعوة قومهم؛ وذلك لأنه بلا شك أن موجب التعصب والعوائد والتقليد هي التي تحاصر عقول كثير من عوام المسلمين اليوم، ليس في باب السلوك فقط، بل في أمور كثيرة؛ لأن النفس ألوفة، ولا سيما إذا دخلت في مسائل الالتزامات والمراسيم الخاصة، فيكون الإنسان من العامة أحياناً مندمجاً في هذا الاجتماع أو هذا التجمع.

أضف إلى ذلك أنه إذا جاءت مسألة الأرزاق ومن يسميهم ابن تيمية بصوفية الأرزاق، فإن الجانب المادي والاقتصادي يكون أحياناً مؤثراً في تعصب كثير من العامة، ولكن طالب العلم والعارف بالسنة وهدي السلف لا بد أن يكون بصيراً، ويعنى بالتصحيح في الأصول الكلية.

وأقول: إن أخص ما يجب التصحيح فيه اليوم هو توحيد الألوهية؛ فإنه -مع الأسف- هو الذي ينتشر عند كثير من عوام المسلمين اليوم الغلط فيه؛ إما ببدع، أو بشرك أصغر، أو بما هو في حقيقة الشريعة وجه من أوجه الشرك الأكبر، ومظاهر المشاهد وما عندها من البدع والخرافات والفلسفات هذه يجب أن يكون هو الهم الأعظم لتصحيح مبادئ الإسلام الكلية الأولى؛ فإن هذا هو المقصود الأول في دين الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأما التفاصيل بعد ذلك فيكون الإنسان فقيهاً في القصد إلى تصحيحها، وما تحتمله سعة الشريعة فينبغي أن لا يشدد فيه.

لكن من الذي يحدد أن هذا تحتمله سعة الشريعة أو لا تحتمله؟

أقول: من لا يجد في نفسه علماً وفقهاً واسعاً فينبغي له أن لا يجعل نفسه فيصلاً في الأمور؛ فمثلاً مسألة توحيد العبادة مسألة محكمة، لا تستطيع أن تقول لشخص: انتبه لا تصحح؛ لكن هناك أمور قد لا يكون الإنسان أو حتى طالب العلم على بصيرة في درجة حكمها من الشريعة، فمثل هذه الأمور لا يعزم فيها بشيء إلا حيث يعلم علماً بيناً أن الشريعة قدمته.

<<  <  ج: ص:  >  >>