للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الخروج عن الوسطية الشرعية]

إن الخروج عن الوسطية ليس الذي يبتلى به هم فقط أهل البدع الخارجون عن السنة والجماعة، بل إن بعض المتأخرين من أصحاب السنة والجماعة قد يعرض لهم أوجه إما من الخفض وإما من الرفع في مقامات من مقامات العلم، أو من مقامات الحكم على المخالف، حيث يكون هذا الحكم خارجاً عن الوسطية الشرعية التي كان عليها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

ومن الأمثلة على ذلك: إذا جئت إلى مسألة أحكام المخالفين من أهل القبلة، قد تجد في كلام بعض المتأخرين من الزيادة ما ليس مذكوراً في طرق الأئمة المتقدمين، فضلاً عن النصوص الشرعية: نصوص الكتاب والسنة.

ومن مثال ذلك: ما يقع في كلام أبي إسماعيل الهروي صاحب المنازل؛ فإن له عناية بالانتصار لمذهب السلف في أسماء الله وصفاته، وكلامه في الأسماء والصفات حسن في الجملة، لكنه اشتد على المخالفين في هذه المسائل ونحوها؛ حتى إنه لما تكلم عن أبي الحسن الأشعري وصفه بأوصاف مغلظة، فقد ذكر في كتابه (ذم الكلام) أن أبا الحسن الأشعري لا يصلي ولا يتوضأ، وأنه مات متحيراً، ووصف هذا الطائفة بنوع من الزندقة وما إلى ذلك.

ولا شك أن هذا تجاوز للعدل وتجاوز للقسطاس المستقيم الذي بعث الله به الرسل عليهم الصلاة والسلام.

ولذلك تجد في حكم المحققين كـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أصحاب أبي الحسن ما هو من العدل في تحقيق السنة وضبطها، مع بيان ما هم عليه من الصواب في مسائل، وما هم عليه من الغلط والبدعة في مسائل أخرى.

قال شيخ الإسلام عن كتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره: "وأما من قال منهم -أي: الأشاعرة- بما في كتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة".

وليس المقصود هنا الكلام عن اسم أو طائفة معينة، وإنما المقصود أن نعلم أنه قد يعرض لبعض الفضلاء المنتسبين للسنة والجماعة أو من هم من أصحابها بعض الخفض والإنقاص، أو بعض الرفع والزيادة، فالحكم على المخالف يعتبر بأصول الكتاب والسنة، وما مضى عليه هدي السابقين الأولين والأئمة المتقدمين.

وفي هذا العصر أصبحت كلمة الوسطية فيها نوع من الاقتباس لمناهج لا تحكي وسطية شرعية، فنجد أنه ربما حمل اسم الوسطية على نوع من المجاملات، أو الخفض في تقرير مسائل الشريعة، وإسقاط حقائق الأصول، وإسقاط قدرها، والتهوين من شأن البدع وما إلى ذلك تحت اسم الوسطية في المنهج، وبالمقابل قد يوجد ما يقابل ذلك.

فالوسطية الشرعية هي المنهج الشرعي الذي يجب على طالب العلم أن يعتبره.

وقد تقدم أن الوسطية تعتبر بثلاثة أصول:

الأصل الأول: اعتبار العلم بالنص الذي هو الكتاب والسنة والإجماع، فهذه الأصول الثلاثة هي الجامعة لعلم المسلمين وعقيدتهم.

الأصل الثاني: اعتبار فقه النصوص بالقواعد التي مضت بها الشريعة، والمقاصد التي بعث الله بها الأنبياء، وإننا نتكلم عن علم وعن فقه، أما العلم فهو العلم بالدليل: الكتاب والسنة والإجماع، وأما فقه الدليل فهو اعتبار هذا الفقه بقواعد الشريعة ومقاصدها.

الأصل الثالث: التفريق بين الأصول والفروع، وبين المحكم والمتشابه، وقد تقدم الكلام عن مفهوم الأصول والفروع وما قيل في ذلك.

هذه هي الوسطية التي مضى عليها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وإذا تكلمنا عن المنهج المخالف له في مسألة السلوك، فهو ما طرأ في طبقات الصوفية الثلاث:

الأولى: طبقة المقتصدين من الصوفية.

الثانية: طبقة من فوق ذلك.

الثالثة: طبقة الغلاة من الصوفية.

<<  <  ج: ص:  >  >>