للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[انتساب كثير من الصوفية إلى السنة والجماعة مع وجود بعض البدع فيهم]

قال المصنف رحمه الله: [وهؤلاء المشايخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول أهل السنة والجماعة، بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة والدعاء إليها والحرص على نشرها ومنابذة من خالفها مع الدين والفضل والصلاح ما رفع الله به أقدارهم، وأعلى منارهم، وغالب ما يقولونه في أصولها الكبار جيد، مع أنه لابد وأن يوجد في كلامهم وكلام نظرائهم من المسائل المرجوحة والدلائل الضعيفة، كأحاديث لا تثبت، ومقاييس لا تطرد مع ما يعرفه أهل البصيرة].

كثير من الصوفية يكونون على قصد السنة والجماعة والعناية ببعض أصولها الكبار، لكنهم لا ينفكون عن بعض البدع والطرق المحدثة في الإسلام، أو الجهل في الصحيح والضعيف من الحديث واستعمال بعض الموضوع فيما يقررونه ويستقبلونه، وهذا نوع من التصوف، أو نوع من الحال الذي صار لكثير من الصوفية الذين ينتسبون للسنة والجماعة.

[وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة، والفقه فيهما].

كثر في المتأخرين مثل هذا، ولذلك من أراد أن يحاسب الناس محاسبة دقيقة فإذا رأى من زل في كلمة أراد أن يجافيه أو يجافي ذكره، أو ينفيه عن السنة والجماعة نفياً مطلقاً، فإن هذا لا يسعه مع أحد؛ لأن المتأخرين من الفقهاء والنظار وأصحاب السلوك كثر فيهم مثل ذلك، أي: دخلت عليهم بدع.

يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "شعار أهل البدع المغلظة ترك الانتساب للسنة والجماعة وسبيل السلف".

أما من انتسب للسنة والجماعة وسبيل السلف فهذا يكون فيه قرب، وفيه موافقة في كثير من الأصول، وإن كان قد يخطئ فيما هو من الأصول أو ما هو دون ذلك، إما في العلم والنظر، وإما في العمل والسلوك والأحوال، فيوزن كل أحد بقدره.

فقد تعرض أحياناً بعض البدع اللفظية، أو بعض البدع الفعلية، حتى إن شيخ الإسلام يقول: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة"، ثم بين أنهم لم يعرفوا أن هذا القول أو الفعل بدعة، ويكون هذا في مسائل ليست من مسائل الأصول، ولا يكون حال أولئك أنهم في جمهور أمرهم على البدعة، بل يكونون من أصحاب السنة في الأصول والعلم والعمل، لكن حدثت لهم بعض الكلمات أو بعض الأقوال التي اخطئوا السنة فيها.

ولذلك لما ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام مسألة الإيمان في كتاب الإيمان، قال رحمه الله: "إن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر -يعني: في مسمى الإيمان- يقول: أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر على فرقتين"، ثم ذكر الفرقة الأولى وهي قول عامة السلف، وهو إجماع متقدم قبل ظهور بدعة حماد بن أبي سليمان، وهو أن الإيمان قول وعمل، ثم ذكر قول حماد، وإن كان لم يسمِّه.

والشاهد: أنه سماهم: من أهل العلم والعناية بالدين، ثم أجاب عن قولهم، ولما انتهى من الجواب عن قولهم وأدلتهم، وأراد أن يذكر قول الجهمية والغالية من المرجئة قال في ختم الكلام: "وهؤلاء وإن خالفونا -يعني: مرجئة الفقهاء- إلا أنهم وقعوا في قول يقع الغلط في مثله"، ثم ذكر القول الذي هو -كما يصفه- ليس من قول أهل الملل، ويعني به قول الغالية من المرجئة.

[مع ما ينضم إلى ذلك من غلبة الأهواء، وكثرة الآراء، وتغلظ الاختلاف والافتراق، وحصول العداوة والشقاق، فإن هذه الأسباب ونحوها مما يوجب قوة الجهل والظلم اللذين نعت الله بهما الإنسان في قوله: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:٧٢]].

لذلك كلما اختصر مقصود الإسلام أمام العامة فهذا هو الأحسن والأفضل، ولا يطول بأسماء طائفية أو أسماء سطحية أو ما إلى ذلك، بل يقال: إن الإسلام هو ما بعث الله به رسوله، ويدعى إلى دين الإسلام، وإلى نصوص الكتاب والسنة، وما مضى عليه هدي السابقين الأولين، وما أجمع عليه الأئمة المهديون، كالأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين المقتدى بهم، دون الخصائص التي قد تعرف في بيئة ولا تعرف في بيئة أخرى، أو تعرف في مصر ولا تعرف في مصر آخر، وما إلى ذلك.

وهذا من فقه التجديد في الدعوة إلى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وهو أن الهدي يربط بصاحب الهدي، والوسطية ليست مكتسبة بأعيان، إنما هي مكتسبة عند من يضاف إليها بقيامه بالسنة والهدي الذي ترك النبي صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه.

<<  <  ج: ص:  >  >>