للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ظهور التصوف والصوفية]

كانت بداية ظهور التصوف عند بعض العباد في زمن التابعين بأوجه تحصيل العبادة، والعناية بمسألة سماع القرآن إلى وجه من المبالغة في الحال عند سماعه، حتى نقل عن جملة -وإن كان هذا النقل كثير منه التحقق من ثبوته صعب لكنه موجود في كتب الصوفية وكتب السلوك وكتب الزهد- كـ عامر بن عبد الله بن الزبير وصفوان بن سليم وعطاء السلمي وجماعة أنهم كانوا إذا قرءوا القرآن سقطوا أو غشي عليهم، وربما نقلت قصص أن فلاناً خر ميتاً أو أغمي عليه حتى عاده الناس ثلاثة أيام أو ما إلى ذلك.

هذه الأوجه حصلت، وإن كنا لا نجزم بأنها قد حصلت من زيد أو عمرو، لكنها أحوال نقلت في زمن التابعين، وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله أن الجمهور من الفقهاء يرون أن هذه حال قاصرة، ولكن ما دام أنها لم تحصل على جهة التكلف والرياء فإنهم معذورون فيها، ثم يقول: "والنبي صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون لم يكن يحصل لهم ذلك لكمال أحوالهم، فهي حال قاصرة، ولكنها محتملة في الجملة إذا لم تصدر عن تكلف أو رياء، ولكنها ليست من الحال التي يقصد إلى تحصيلها أو يوصى الناس بها".

ثم زاد الأمر فيما يتعلق بمسائل التعبد إلى قدر من الانغلاق الزائد عن الدنيا، حتى ترك أصحابها كثيراً من المباحات، ولربما زاد الأمر إلى ترك بعض المشروعات؛ كالزواج وصلة الأرحام والاختلاط بالأقارب ومصاحبة من تلزم مصاحبته وما إلى ذلك؛ وكانت هذه بداية ظهور ما سمي بالتصوف.

ثم ظهر هذا الاسم في المائة الثانية، وصار بعض هؤلاء يسمون بالصوفية، وإن كان أصحاب التاريخ ومن كتب في تاريخ العلوم قد اختلفوا كثيراً في سبب هذا الاسم، فمنهم من قال: إنه نسبة إلى الصفاء، أو إلى الصف المقدم، أو نسبة إلى الصفة التي كان بعض الصحابة رضي الله عنهم من الفقراء يجلسون فيها، أو أوجه أخرى ذكروها، وإن كانت هذه الأوجه لا تصح على أقل أحوالها من حيث النسبة.

وأصح ما يمكن من حيث النسبة اللغوية: أن النسبة إلى الصوف وإلى لبس الصوف، وهذا العرض التاريخي ليس هو المقصود، إنما المقصود أن التصوف بدأ بهذه المظاهر من التعبد التي ليست على السنة المحضة، ولكنه قد يحتمل بعض أوجه من حيث العذر، إضافة إلى ترك كثير من المباحات، فصار الزهد والعمل بالإسلام يفسر تفسيراً مجانباً للسنة، ولكنه تفسير لا يأخذ انشقاقاً مطلقاً عن السنة والجماعة، بل كان أصحابه في أوائل أمرهم يعنون باتباع الكتاب والسنة، ويعظمون الدليل، ويعظمون هدي الصحابة وما إلى ذلك.

هذه هي الطبقة الأولى في بداية المخالفة في مسألة تفسير العمل في الإسلام، أو تفسير السلوك في الإسلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>