للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
مسار الصفحة الحالية:

واصلخم (١) لججه، واغلولب (٢) عبابه، كانت القرى بما أحاط بها كالربا لا يوصل (٣) من بعضها إلى بعض إلا في السفائن والمراكب، ولا يلبث إلا قليلا حتى يكون كأول ما بدأ من جريه وأول ما طما من شربه، وحتى تستبين فنونها ومتونها (٤)، ثم تنتشر فيه أمة محقورة (٥)، قد رزقوا على أرضهم جلدًا وقوة، لغيرهم ما سعوا (٦) به من كدهم بلا حمد ينالهم من ذلك، يسقون سهل الأرض وخرابها وروابيها، ثم يلقون فيها من صنوف الحب ما يرجون به التمام من الرب، وما يلبث إلا قليلا حتى يشتد، ثم تسيل قنواته وتصفر، يسقيه من تحته الثرى ومن فوقه الندى، أو سحاب منهمر بالأرائك مستدر، ثم في هذا الزمان من زمانها يغنى ذبابها (٧)، ويبدأ في صرامها، فبينما هي مدرة سوداء إذا هي لجة زرقاء، ثم غوطة خضراء، ثم ديباجة رقشاء (٨)، ثم فضة بيضاء، فتبارك الله أحسن الخالقين، الفعال لما يشاء. وإن خير ما اعتمدت عليه في ذلك شكر الله عز وجل يا أمير المؤمنين، على (٩) ما أنعم عليك منها، فأدام الله لك النعمة والكرامة في أمورك كلها والسلام.

وأجمع أهل العلم أنه ليس في الدنيا نهر أطول مدى من النيل، يسير


(١) اصلخم: اشتد.
(٢) اغلولب: التف.
(٣) في: أ "لا يرحل"، والمثبت في: ب ومثله لدى ابن ظهيرة في فضائل مصر ص ١١٤.
(٤) فنونها ومتونها: أي طرقها وظهورها.
(٥) محقورة: ذليلة؛ لأن الرومان كانوا يحتقرونهم وبهذا المعنى أيضا قوله: لغيرهم ما سعوا به من كدهم (ابن ظهيرة: الفضائل الباهرة ص ١١٥ هامش ٣).
(٦) في: أ "ما شقوا به"، والمثبت في: ب.
(٧) أي يعظم محصولها.
(٨) الرقشاء: المنقطة ببياض وسواد.
(٩) ذكر ذلك، ابن ظهيرة في: محاسن مصر والقاهرة ١١٤، وابن تغرى بردى في: النجوم الزاهرة ١/ ٣٧.