أعلم أن بين الخمر والغناء مناسبة في أكثر الأحوال ومضارعة فيما يجمعانه من محمود الخصال لأن فيه ما يصير الجبان إذا سمعه شجاعا ومنه ما يكون للهم دفاعا ونغمه يبعث الشحيح على السخاء ومقابلة سؤال السائل بالعطاء وفيه ما ليس في الخمر من الخصائص العجيبة الأمر ذلك أن الرجل الواحد يغني له في طريقه فيلين خلفه ويغني له في غيرها فتطهر شراسته وترفه وإذا سمع ضربا منه استنفره وإذا عنى بصوت آخر لم يمكن العواصف أن تهزه وفيه ما يبكي سامعه ولممازجة الأصوات الحسنة للأرواح وإهدائها إلى القلوب ظرائف الأفراح كانت البهائم إذا سمعتها تحن إليها والطير يشغف بها ويطرب عليها والإبل يكسبها الحداء مثل ما يكسب الإنسان الغناء والخيل والبغال والحمير تلذ بشرب الماء إذا تواصل من ساقيها الصقر والحمامة المطوقة والشحارير والبلابل والزرازير والهزاردستانات وغيرها من الطيور المستحسنة الأصوات تسمع أصواتها فيبين منها الطرب وذاك داعيها إلى تكريرها ولأجل ذلك يتخذها الملوك في قصورهم ويجعل أماثل الناس كثيراً منها في دورهم وإن كانت أصواتها لا تدل على معنى رائق يعلم ولا تتضمن ما يعرب عنه الكلام الذي يفهم فما ظنك بالألفاظ التي يسمعها السامع فيعيها ويفهم ما يفيده إياه من معانيها إذا أدركها ملحنة ممن خصوا بصفاء الخلق والنغمات المستحسنة ولهذه العلة صار من يسمع غناء المحسن يشرب من النبيذ عليه أزيد مما يحتمله حاله إذا لم يصغ إليه ويستمرئ الكثير منه مع سماعه وإن كان يثقل عليه قليله إذا خلا من استماعه وقد علم أن الصبي الطفل إذا أنزعر خلقه واتصل بكاؤه لوجع يناله أو ضجر يجده وصوتت له دادته بكلام تلحنه وتراجعه سكن قلقه أو سمع من منومته مثل ذلك زال أرقه.
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: عيش الدنيا بعد الصحة والشباب في الطلاء والغناء والنساء والآلات التي اتخذت للغناء بها واستعلمت على ترتيب أمكن معه أن يظهر منها ما يظهر من الحيوان الذي يرجع صوته بألحان فإن الحكمة فيها مطلوبة والمنافع المكتسبة منها جسمية والعود أجلها خطرا وأحسنها في القلوب أثرا وقد كان داود عليه السلام أحذق الناس بصوغ الألحان في تسبيحه ويعرف الفاسد من ذلك من صحيحه وبه كان يضرب المثل في حسن إيقاعه في عوده وارتياح القلوب لصوته وتغريده وكان قبل إفضاء الملك إليه واجتماع بني إسرائيل عليه يحضره ملكهم طالوت إذا غلب عليه خلط رديء كان يعتريه فيأمر أن يوقع له بالعود ويسمعه من أصواته ما يستلذه فيفعل فيسكن ما هاج به ولما صار الملك إليه نصب من أعظم الحذاق بتلحين المزامير والتسبيح بها على الميدان والطنابير وغيرها من الدفوف والطبول والصلصل وما يجري مجراها جماعة وكانت العدة التي تحضر من هذه الطائفة عنده أربعة آلاف في كل ليلة ذكر ذلك جميعه الثعالبي في موائد الأفراح وحدود الغناء أربعة لا يستغني عن واحد منها وبها يتم وعليها يبني فأقلها النغم ثم تأليفه ثم قسمته ثم إيقاعه فما اشتمل من الشعر على هذه الحدود فهو غناء وإن نقص منه فليس بغناء وذكر اليونانيون أن الأوتار الأربعة شبهت بالطبائع الأربع وإن البم مشاكل للأرض والسوداء والمثلث بالماء والمبلغم والمثنى بالهواء والدم والزئر بالنار وإن النار لما كانت في الطرف الأعلى في العالم والأرض في الجهة السفلى منه جعل ما بين البم والزئر كذلك وزعمت الأعاجم أنه مشتق من صرير باب الجنة وما قدم أحد من الأمم على العوذ من الملاهي إلا لما جمع من الفضائل التي استبد بها وقصر سواه عن اللحاق فيها والحاذق في الغناء مقدم على كل حاذق.
وذكر أن عبد الملك أتى بعود قد أخذ مع شارب بالليل فقال وعنده قوم ما هذا ولاي شيء يصلح هذا وأي شيء يعمل به فسكت جلساؤه فقال عبد الله بن مسعدة القراري هذا عود يؤخذ خشبه فيشق ويرقق ويلصق ثم يعلق عليه هذه الأوتار وتحركها الجارية الحسناء فينطق بأحسن من وقع القطر في البلد القفر وامرأتي طالق إن لم يكن كل من في هذا المجلس يعلم منه مثل ما عملت وأولهم أنت يا أمير المؤمنين قال فضحك عبد الملك.