[الباب السادس والأربعون في الحمام وما في وصفها من بديع النظام]
قد جرت عادة الكبراء والعظماء بإتخاذ الحمام في منازلهم ولا سيما في أيام الخلفاء فكثر ذلك في ايام الناصر لدين الله احمد بن الإمام المستضئ فإنه اهتم بأمرها وبأمر إنشائها ومازالت الخلفاء والملوك يطيرون الحمام ويسابقون به ولا يختص بذلك بنو العباس قال صاحب روض الأذهان: كان الوزير أبو الفرج يعقوب وزير المعز أجل الخلفاء المصريين وأفخمهم وكان له حمام يسابق فاتفق أنه سابق بها طيور الخليفة العزيز فسبق حمامه فعظم ذلك على الخليفة ووجد أعداء الوزير الطعن عليه من أن هذا الوزير يختار لنفسه من كل شيء ويختار للخليفة الأدنى فبلغ ذلك الوزير فكتب إلى الخليفة:
قل لأمير المؤمنين الذي ... له العلا والكوكب الثاقب
طائرك السابق لكنه ... جاء وفي خدمته حاجب
فسكن غيظ الخليفة ولما مات هذا الوزير خلف أربعة آلاف مملوك وحارة الوزيرية في القاهرة وتعرف به وبساتين الوزير بالقرب من بركة الجيش ولما مات نزل الخليفة وألحده في قبره وبلغ كفنه وما يدخل فيه عشرة آلاف دينار.
قال الجاحظ: وقد تباع الحمامة بخمسمائة دينار ولم يبلغ ذلك شيء من الطير ومن دخل بغداد والبصرة عرف ذلك وتباع البيضة بخمسة دنانير والفرخ بعشرين ديناراً روى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه اشتكى إلى رسول الله (الوحشة فقال: "اتخذ حماماً تؤنسك وتصيب من فراخها وتوقظك للصلاة بتغريدها" وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله (: "الحمام فإنها تلهي الجن عن صبيانكم" روى جابر أنه كان رسول الله (يعجبه النظر إلى الحمام والأبراج وكان في منزله (حمام أحمر اسمه ورذان، وكان إبراهيم بن بشار معجباً بالحمام والأبراج وكان إذا ذكرها يقول أن الله جمع فيها حسن النظر وكريم المخبر تكفيك مؤنتها فهي للطارق عدة وللمستوطن لذة تطعم في الصحراء وتعود إليك في السراء يأنس الوحيد بحركاتها وتغنيه عن الأوتار بنغماتها وغيرها من الطير يستعجم وهي ناطقة وتنفر عنك وهي داجنة وفي طبعها السكون إلى الناس والاستئناس بهم وهي طير عفيف يبقى الذكر بعد الأنثى منفرداً والأنثى مثل ذلك مع شدة اتفاقهما على المحبة إن طارا طارا معاً معاً وإن وقعا وقعا معاً لها سرعة الطيران لا تكاد سباع الطير تصيدها إلا بحيلة ولم تزل العرب تستحسن سجع الحمام وتغريد البلبل والورشان وإعراب وادي القرى إذا ظفروا بشباب الطائف أتوا حوائط من النخل عند استواء الظهيرة إذا صارت الوراش والفواخت إلى ذلك الظلال فيشربون ويأنسون بتغريدهن ويقيمون أصواتهن مقام المزامير والأوتار وفي ذلك يقول بعضهم:
أحن إلى حوائط ذات عراق ... لتغريد الفواخت والحمام
ألم بها وكل فتى كريم ... من الفتيان مخلوع الزمام
وقد ألف القاضي محيي الدين بن عبد كتاباً أسماه تمائم الحمائم وذكر فيه أنسابها وأنواعها وغير ذلك ومنه قول القاضي الفاضل لا زالت أجنحتها تحمل من البطائق أجنحة وتجهز جيوش المقاصد والأقلام أسلحة وتحمل من الأخبار ما تحمله الضمائر وتطوى الأرض إذا نشرت الجناح الطائر وكادت تكون ملائكة لأنها رسل إذا نيطت بالرقاع طارت أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع وقد باعد الله بين أسفارها وقربها وقرها وجعلها طيف اليقظة الذي صدق العين وما كذبها وقد أخذت عهود أداء الأمانة في رقابها أطواقاً وأذنها من أذنابها أوراقاً فصارت خوافي ةوراء الحوافي وغطت سرها بكتمان سحبت عليها ذيول ريشها الصوافي ترغم النوى بتقريب العهود وتكاد العيون تلاحظها وتلاحظ أنجم السعود وهي أنبياء الطير لكثرة ما تأتى به من الأنباء وخطباؤها لأنها تقوم على منابر الأغصان قيام الخطباء وسماها القاضي الفاضل في مكان آخر ملائكة الملوك فرحمه الله ما كان أقدره على الكلام وما أحسن ملا وصف الحمام وتسميته أيها أنبياء الطير، قال الشيخ تاج الدين بن الأثير من فصل: طالما جارتها الرياح فأصبحت فأصبحت مخلفة وراءها تبكي على السحب وصدق من سماها أنبياء الطير لأنها مرسلة بالكتب وقال الشيخ السديد علو الرؤساء من رسالة في تقدمته بالبشائر يكون المعنى بقولهم أيمن الطائر ولا غرو أن أفارق رسل الأرض وفاتهم وهو مرسل والعيان عيانه والجو ميدانه والجناح مركبه والرياح موكبه وابتداء الغاية شوطه والتشوق إلى أهله وقال الاسعد بن مماتى من صدر رسالة: