للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من رسالة للإمام ضياء الدين محمد بن نصر الله الجزري المعروف بابن الأثير (مولده سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، ووفاته سنة سبع وثلاثين وستمائة) وكان بين يدي شمعة تعم مجلسي بالإيناس وتغني بوجودها عن كثرة الجلاس وينطق لسان حالها أنها أحمد عاقبة من مجالسه الناس ولا الأسرار عندها بملفوظة ولا السقطات لديها محفوظة وكانت الريح تلعب بلهبها وتخلف على شعبة بشعبها فطوراً تقيمه فتصير أنمله وطوراً تمله فتصير سلسله وتارة تجوفه فتصبر مذهنه وتارة تجعله ذا ورقات فيتمثل سوسنه وآونة تنشره فتصير منديلاً وآونة تلفه على رأسها فيستدير إمكليلاً ولقد تأملتها فوجدت نسبتها إلى الفص العسلي وقدها قد العسال وبها يضرب المثل للحكيم غير أن لسانها لسان الجهال ومذهبها مذهب الهنود في إحراق نفسها بالنار وهي شبيهة بالعاشق في انهمال الدمع واستمرار السهر وشدة الإصفرار وكل ذا تجدد لها بعد فراق أخيها ودارها والموت في فراق الأخ والدار.

وقد نزع هذا المنزع في رسالة أخرى فقال وذلك أن لها قد ألفى القوام مشبهاً في نحوله وإصفراره بحال المستهام وهي القلم شيئان في أنها إذا قطع رأسهما صحا بعد السقام ومن عجيب شأنها أن روحها تحيي بفناء جسمها وبالأرواح تكون حياة الأجسام وقد وصفها قوم بأن لها خلقاً كريماً في رعاية حقوق الإخوان وإن بكاها ليس إلا لمفارقة أخيها الذي خرجت معه من بطن ونشأت معه في مكان وهذا الوصف من ألطف أوصافها وهو مما يزيد الأحباب وجدا بأحبابها ويهيج الآلاف شوقاً إلى آلافها وكانت الريح تلعب بلهبها لدى الخادم فتسلطه هلالاً فتارة تبرزه هلالاً ولربما سطع طوراً كالجلنارة في تضاعف أوراقها وطوراً كالأصابع في انضمامها وافتراقها وآونة تأخذه فتلقيه على رأسها كالقناع ثم ترفعه عنها حتى تكاد تزاوله بذلك الارتفاع ثم قال بعد ذلك كلاماً ليس فيه تشبيه فكما كانت الريح تلعب بالشمعة فتنقلها من مثال إلى مثال كذلك الشوق يلعب بالقلب فينقله من حال إلى حال، وهذا الوصف وإن مد باعه لمعانقته الإبداع، وأودع أسرار المعاني في صدور الألفاظ فصانها بالإيداع مأخوذ من موضعيبن أحدهما من قصيدة الأرجاني والآخر من كلام أبي محمد عبد الله بن أبي الخصال فإنه مذكور في آخر هذا الباب عند ذكر السراج.

أما قصيدة الأرجاني فهي:

نمت بأسرار صبح كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للناس من فيها

قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن ... إلا برقية نار من تراقيها

سفيهة لم يزل طول اللسان لها ... في الحي يجني عليها ضرب هاديها

غريقة في دموع وهي تحرقها ... أنفاسها بدوام من تلظيها

تنفست نفس المهجور فأدكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يبكيها

يخشى عليها الردى مهماً ألم بها ... نسيم ريح إذا وفى يحيها

بدت كنجم هوى في اثر عقربة ... في الأرض فاشتعلت منها نواصيها

نجم رأى الأرض أولى أن يبوئها ... من السماء فأمسى طوع أهليها

كأنها غرة قد سال سادخها ... في وجه دهماء يزهيها مجليها

أو ضرة خلقت للشمس حاسدة ... فكلما حجبت قامت تحاكيها

وحيدة وهي مثل الرمح هازمة ... عساكر الليل عن حلت بواديها

ما طنبت قط في أرض مخيمة ... إلا وأقمر للأبصار داجيها

لها غرائب تبدو من محاسنها ... إذا تفكرت يوماً في معانيها

فالوجنة الورد إلا في تناولها ... والقامة الغصن إلا في تثنيتها

قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجني على الكف أن أهويت تجنيها

ورد تشاك به الأيدي إذا قطفت ... وما على غصنها شوك يوقيها

صفر غلائلها حمر عمائمها ... سود ذوائبها بيض لياليها

كصعدة في حشا الظلماء طاعنة ... تسقي أسافلها ربا أعيالها

وصيفة لست منها قاضياً وطرا ... إن أنت لم تكسها تاجاً يحليها

صفراء هندية في اللون إن نعتت ... والقد في اللين إن أتممت تشبيهاً

ما إن تراك الليل لاهثه ... وما بها علة في الصدر تصميها

تحيي الليالي نوراً وهي تقتلها ... بئس الجزاء لعمر الله يجزيها

ورهاء لم يبد للأبصار لابسها ... يوماً ولم يحتجب عنهن عاريها

قدت على قد ثوب قد تبطنها ... ولم يقدر عليها الثوب كاسيها

<<  <   >  >>