للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واعلم أن الخصال المحمودة والكمال لا يوجدان في شخص أبداً ولا بد من عيب يشوبه فإن اخترت صديقً ورضيته وكاشفته فبدت منه هفوة أو زلة فاغفرها فالسيف ينبو والجواد يكبو وإذا صفى الصديق فلا تناقشه في دينه ولا مذهبه فإن ذاك يوجب القطيعة والعداوة وأجرا معه في هواه من دينه إذا جرى هو في هواك من صداقتك.

قال أبو العلاء المعري رحمه الله تعالى:

إذا ما الخل أصفاني ودادا ... فسقيا في الحياة له ورعيا

ليقرأ إن أراد كتاب موسى ... ويقرأ إن أراد شعيا واصلح ما صادقت حكيما أو أديبا عاقلاً عالماً فإن عداوة هذا خير من صداقة الجاهل قال بعض الحكماء: الجاهل عدو نفسه فكيف يكون صديق غيره ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه.

ومتي تغير الصديق عليك فاستيقظ ذلك بقريحة حسن منك كما قال الشاعر:

وإذا استعجمت مودة خل ... فاعتبرها من أعين الغلمان

إن عين الغلام تنبيك عما ... في ضمير المولى من الكتمان

القول على النديم: النديم فعيل بمعنى مفاعل منادم والندمان وأكثر منادمة وملازمة من النديم لأن زيادة اللفظ توجب زيادة المعنى، ويقل رجل رحيم ولا يقال رحمان لأنه ثناء المبالغة وفي الدعاء يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأن رحمته في الدنيا عمت الكافر والمؤمن والفاسق والناسك ففي الآخرة يخص برحمته المؤمنين والمسلمين دونهم واشتقاق اسم النديم من المنادمة كأنه يندم على مفارقته لوجود الراحة به والأنس إليه، وينبغي له أن يكون حسن المبرة نبيل الهمة مستوى الذيول وأطراف الأكمام نظيف المخفى من الملبس كالقلنسوة والسراويل والتكة والجورب ومنديل الكم، فإذا كملت لفيه هذه الخصال كان محبوباً إلى القلوب سهلا على الأرواح، وإذا لم يكمل كان بالضد ومستثقلاً معيباً في العيون بغيضاً على القلوب كما قيل في أبي يعلى الكاتب القرشي:

نعمة الله لا تعاب ولكن ... ربما استثقلت على أقوامي

لا يليق الغناء بوجه أبي يعلى ... ولا نور بهجة الإسلام

دنس الثوب والعمامة والبرذو ... ن والنقل والقفا والغلام

وينبغي له إذا جلس للشراب مع الملك أن يجلس في المرتبة التي لا يتجاوزها إلى ما هو أعلى منها عنده ولا يحط نفسه عنها ولا يكثر الاتكاء بين يديه وليكن منتصب الجلوس خفيف الوطأة إن قام قام لقيامه وليحذر التبسيط والتمديد والتمطي والتثاؤب التنخع والبصاق وتفريك اليدين وفرقعة الأصابع واللعب بالخاتم والعبث باللحية والعمامة ولا يكون من شأنه التعزية والتهنئة ولا التشميت عند العطسة ولا أسرع بالتحية ولا العبث بالفاكهة والرياحين والأزهار ولا التناول وللشمامات ولا الإكثار من التنقل بعد الشراب ولا يرمي ثفل ما يمتصه بحيث يرى ولا يعض الفاكهة نهشاً بل يقطع منها حاجته بالسكين قطعاً ولا يكثر شم الريحان ولا إدارة اليد فيه لا يقطع رؤوسه ولا ينفضه عند أخذه ولا يفركه فيزول عقله وليصب لنفسه ما يعلم أنه يقوم به ولا يرفع القدح قبل الملك ولا يصب فيه نبيذاً من قبل صبه أو معه ولا يقترح صوتاً ولا يظهر الطرب وزلا يوقع على تلحين ولا يبد منه هزل وإن ناوله الساقي قدحاً أخذه بلا ازدياد ولا نقصان ولا مماسكة ولا مماراة فإذا أحسن بنفسه سكر أسرع القيام والانصراف وهو يملك نفسه ولا يلمس كف الغلام عن مناولة كأس ولا يكثر ملاحظته عند معاطاته الراح ولا يشير إليه ولا يغمزه ويستحب منه أن يكون مفنناً فيجري مجرى إبان اللاحقى بما وصف نفسه للفضل بن يحيى البرمكي وذلك أنه ورد إلى بابه ليعرض نفسه وأجبه عليه فأتى إلى محمد بن زيدان الثقفي فقال له: إن رأيت أصلحك الله أن تعرض قصتي على الأمير فقل وما فيها قال أعرض نفسي وأدبي عليه فقال وما فيها فقال له: أعرض نفسي وأدبي عليه فقال فهل لك فيمن دون الأمير ليشاطرك الضياع والأموال والرقيق ما خلا الأهل والوالد قد نازعتني نفسي إلى شيء لا بد لي من أن أعطيا شهوتها منه فأخذ قصته فأدخلها إلى الفضل بن يحيى فإذا فيها:

أما من بغية الأمير وكنز ... من كنوز الأمير ذو أرباح

كاتب حاسب أديب خطيب ... ناصح زائد على النصاح

شاعر مفلق أخف من الري ... شة مما يكون تحت الجناح

لي في النحو فطنة واتقاد ... أنا فيه قلادة بوشاح

<<  <   >  >>