للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حكى أنه كان بمدينة بغداد رجل من أولاد النعيم ورث من أبيه مالاً جزيلاً وكان قينة فأنفق عليها أشياء ثم اشترها وكانت تحبه كما يحبها ولم يزل ينفق عليها ماله وهو في أكل وشرب إلى أن لم يبق له شيء وأفلس فطلب معاشاً يعيش فلم يقدر على شيء، وكان الفتى في أيام سعادته يحضر القينة في صناعة الغناء لتزداد في صناعتها فبلغت في الصناعة الغاية التي لم يدركها أحد سواها وكان الفتى قد علم من صناعة الغناء مثلها وأوفى فاستشار بعض إخوانه ومعارفه فقالوا له ما نعرف لك معاشاً أصلح من أن تغنى أنت والجارية فتأخذ على ذلك المال الكثير وتأكل وتشرب وأنت كل يوم طيب العيش فأنف من ذلك وعاد إليها فأخبرها بما أشير به عليه وأعلمها أن الموت أحب إليه من ذلك فصبرت معه على الشدة ثم قالت لقد رأيت لك رأياً قال ما هو قالت تبيعني فإنه يحصل لك من ثمني ما إن تعيش فيه عيشا طيبا وتتخلص من هذه الشدة وأخلص أنا وأحصل على نعمة فإن مثلي لا يشتريه إلا ذو نعمة أكون السبب في رجوعي إليك قال فحملها على السوق فكان أول من أعرضها عليه فتى هاشميا من أهل البصرة ظريف أديب كريم النفس واسع الحال فاشتراها بألف وخمسمائة دينار عينا فقال الرجل حين لفظت بالبيع وقبضت المال ندمت غاية الندامة وبكيت أشد بكاء وصارت الجارية في أقبح من صورتي وجهدت في الإقالة فلم يكن إلى ذلك سبيل وأخذت الدنانير في الكيس ومضيت لا أدري إلى أين أذهب لأن بيتي موحش منها وورد على من البكا واللطم والنحيب شيء لا أصفه قال فدخلت بعض المساجد وجلست أبكى فيه وأفكر فيما نابني وفيما عملت بنفسي فحملتني عيني وتركت الكيس تحت رأسي كالمخدة ونمت فلم أشعر إلا بإنسان قد جذبه من تحت رأسي ومضى يهرول فانتبهت فزعاً فطلبت الكيس فوجدته قد أخذ فقمت أريد أجري وراءه وإذا برجلي مربوطة في حبل والحبل في وتد فوقعت على وجهي ورأسي وقلت فارقت من أحب وذهب المال فكيف حالي فزاد بي الأمر إلى أن جئت إلى الدجلة ووضعت ثوبي على وجهي ورميت روحي في الدجلة ففطن الحاضرون لي وأن ذلك لغيظ نالنى فرموا أرواحهم خلفي فشالوني وسألوني عن أمري فأخبرتهم خبري فصرت بين راحم ومستجهل إلى أن جاءني شيخ منهم فأخذ بغصتي وقال لي يا هذا ذهب مالك وتذهب نفسك وتكون من أهل النار فثق بالله العظيم قم معي فأرني بيتك فما فارقني حملني إلى منزلي وقعد عندي حتى رأى السكون فيّ فشكرته وأنصرف فكدت أقتل نفسي فتذكرت الآخرة والنار فخرجت من بيتي هارباً إلى بعض أصدقائي القدماء فأخبرته بخبري وما جرى عليّ فبكى لي رحمة وأعطاني خمسين ديناراً وقال أقبل رأيي وأخرج الساعة من بغداد وأجعل هذه نفقة لك إلى حيث تجد قلبك تشاغل وأنت من أولاد الكتاب وخطك جيد وأدبك بارع فاقصد من شئت من العمال فأطرح نفسك عليه فلعله أن يستخلفك في شيء تنتفع به وتعيش معه ولعل الله عز وجل أن يجمع عليك جاريتك فعملت على هذا وجئت إلى الكتبين وقد قوي حالي وزال عني بعض الهم واعتمدت على أنني أقصد واسط لأنه كان لي بها أقرب فإذا زلال مقدم وجراية كبيرة وقماش فاخر ينقل إلى الزلال فسألتهم أن يحملوني إلى واسط فقالوا هذا الزلال لرجل هاشمي ولا يمكننا حملك على هذه الصورة فسألتهم أن يحملوني وأرغبتهم في الأجرة فقالوا إذا كان فقالوا إذا كان ولابد أخلع هذه الثياب التي عليك وألبس ثياب الملاحين وأجلس معنا كأنك واحد منا فرجعت واشتريت من ثياب الملاحين وجئت إلى الزلال بعد أن اشتريت خبزاً وما يصلح للسفر وجلست معهم فما كان إلا ساعة حتى رأيت جاريتي بعينها ومعها جاريتان يخدمانها فسهل على ما كان بي وقلت أراها وأسمع غناءها من هنا إلى البصرة واعتقدت أن أجعل قصدي البصرة وطمعت أن أدخل مولاها وأصير من ندمائه وقلت لعلها لا تخليني من المراد وكنت واثقاً بها فلم يكن أسرع من أن جاء الفتى الهاشمي راكباً ومعه عدة ركبان فنزلوا في الزلال وانحدروا فلما صار عند كلوادى أخرج الطعام وأكل والجارية وأكل الباقون على وسط الزلال وأطعم الملاحين ثم أقبل على الجارية فقال لها كم هذه المدافعة عن الغناء ولزوم الحزن والبكاء لست أنت أول من فارق مولا كان لها محباً فعملت ما كان عندها من أمري ثم ضربت ستارة في جانب الزلال واستدعى اللذين يأكلون ناحية جلس معهم خارج الستارة فسألت عنهم فإذا هم أخوته ثم أخرج الصواني فيها

<<  <   >  >>