للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأوليين من طبقاتهم. لأنهم لما يبلغوا الغاية في تجريد القياس وتعليل النحو وتفريعه ولم تضطرب الروايات في هذا الحين، ومادة اللغة قوية.

ولا ريب أن نشوء النحو بالبصرة إنما كان تلبية لداعي المحافظة على صيانة اللغة العربية مما نزل بها منذرا بالخطر المدلهم الذي لو ترك وشأنه لدرجت كما درج غيرها من اللغات، كما كان واجبا على من دخل في الإسلام من غير أبناء العرب أن يتعلمه ليتعرف لغة القوم الذين صار منهم حتى يتم الاندماج بينهما وتستحكم أواصر الوحدة فيها: قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ١.

والفضل في ذلك راجع إلى أبي الأسود الذي توطنها مع تشيعه للعلويين ومناوأة البصريين للعلويين وشيعتهم، إلا أن سلطان هذا العلم استرعاهم فأقبلوا إليه يزفون، وتحلقوا حوله وتدارسوا مسائله حبا في المعرفة لذات المعرفة ورغبة في العلم لذاته غير طامعين في مغنم أو حريصين على شيء من حطام الدنيا، وأغلبهم من الموالي الذين سعد بهم هذا العلم منذ بزغ فجره لأنهم من أمم مرنت على مزاولة العلوم والفنون بحسب لغاتها، فشدوا عضد أبي الأسود في التدوين وكانوا له خير معين.

كان لتعاون تلك البيئة التي تموج بمختلف العرب الذين يمثلون أغلب القبائل المعترف بينهم بسلامة سلائقها -كما كانت تعج بالرواة والحفظة والنقدة، وهذا الداعي العلمي الخالص- الأثر الطيب في سلوك البصريين في قواعدهم، ونمطهم العلمي، فحولهم الأساليب العربية متوافرة تجود لهم بشواهد القواعد دون مجهود يلحقهم، ولا منافس لهم يستعجلهم ويقطع عليهم سلسلة الاستقراء حتى يثقوا بما يدونون متئدين مطمئنين إلا شيئا واحدا، وذلك هو منادي العلم المحض، فكان لزاما لذلك أنه لم تدون قواعدهم إلا مدعومة على عناصر ثلاثة:


١ سورة الحجرات، الآية: ١٠.

<<  <   >  >>