يحار الناظر في تعريف الأسباب التي أقعدت مصر عن النهوض بهذا العلم دون مشاطرة العراق في إبان تكوينه ونشوئه حتى أوشك أن ينضج ويكمل، مع توثق الصلات بينها وبين العراق في ذلك العهد، ومع وفود العرب الخلص إليها مع الفاتحين كالعرب الذين نزحوا إلى العراق، وكانوا مثابة لنحاته في تدوين النحو، والسير به قدما إلى أن تم على أيديهم، ومع وجود العلماء الذين يعتمد عليهم، وفيهم غناء أي غناء بين ظهرانيهم من أمثال عبد الرحمن بن هرمز الذي استوطن قديما الإسكندرية حتى قضى نحبه سنة ١١٧هـ، وقد مضى في الكلام على واضع النحو أن بعض العلماء عده الواضع له.
وأعجب من هذا تواني الشام عن المشاركة في هذا العلم تلك الأيام السالفة، فإن للشام بعد هذه الدواعي المساوية فيها مصر امتيازها عنها بالقرب من العراق من جهة واقتراب بادية الشام منها من جهة أخرى، فكان سهلا على علماء الشام اتصالهم بها عن كثب منهم دون اغتراب وعناء.
أما بلاد الأندلس فبعد الشقة بينها وبين العراق حال دون اقتفائها العراق حينا من الدهر، ولا سيما إذا أضيف لذلك تقطع الأسباب بين المشرق والمغرب في فترات اتفق فيها أن كانت النهضة في العراق سائرة إلى الأمام، في سبيل الاستكمال لهذا العلم، فما طفقت الأندلس تشتغل بهذا العلم إلا بعد نضوجه وكماله في العراق.
نعم، لا غرابة في سبق العراق القطرين وغيرهما في مزاولة هذا العلم، فقد توافر في العراق أسباب متضافرة تجعله خليقا أن يكون مهده، وقد بيناها أوائل الكتاب في الكلام على وضعه زمانا ومكانا، وعلى مشاهير البصريين والكوفيين، إنما الذي نبحث عنه وننشده الآن تعرف الأسباب التي أخرت مصر والشام فلم تتأثر١ دمشق وحلب ولا القاهرة عاجلا البصرة والكوفة وبغداد.
والذي يلوح لنا -والله أعلم بالحقيقة- أن العراق كان دائم الاتصال بالبلاد الحجازية المقدسة، والرحلات بينهما متبادلة، فسمع أهل العراق من الصحابة ومن التابعين أحكام الدين فامتد نظرهم إلى ذلك الأمر الجديد أمر