إن المتتبع لتراجم رجال الطورين في البلدين يرى أن كل واحد منهم قد خب فيها ووضع، وأن المشادة بين الفريقين ما فترت حينا، إذ كانت تثيرها الرغبة في الوصول إلى الحقائق والاعتزاز بالنفس والعصبية للبلد والنمط العلمي، والطمع في نائل الخلفاء والأمراء الذين "أسهموا" بقسط قيم فيها، وكان أغلبها على أيديهم أو على كثب منهم، وحكموا في كثير منها فنصروا وخذلوا ورفعوا وخفضوا، كان لذلك كله أثره في زج العلماء بأنفسهم في هذه المعمعة التي كان يأمل كل واحد فيها أن يكون المجلي، لأن هذا العلم حينذاك لما ينضج في أغلب مسائله، ولم يتخذ شكلا ولا صورة ثابتة يقف أمامها كل رائد مكتوف اليد، بل كان يبدو لكل ما لا يلمحه الآخر، وحجة هذا تناهض دليل ذاك لاختلاف الروايات وتفاوت المسموعات وتنوع العصبيات، ولقد تطاير شررها من الخارج إلى الداخل فكانت مناظرات بين البصريين أنفسهم والكوفيين أنفسهم.
إن المناظرات تصير حيث يصير العلم وحيث يصير العلماء، فحب الغلبة جبلي في الإنسان في مظاهر الحياة المختلفة، فكيف العلم الذي هو أنبل الغايات وأسمى المقاصد؟ نعم إذا كان مبعث المناظرات محض العلم فحبذا الغرض والمطلب، لكنها فيما نحن فيه قد شيبت بالعصبية، فكانت حربا ضروسا غير أنها محمودة المغبة على كل حال لما تسفر عنه من نتائج القرائح المكنونة، فما نعمت اللغة وغنيت إلا من هذا السجال العلمي و"عند الصباح يحمد القوم السرى"١.