سلف أن هذا الطور كان التمهيد إليه على أيدي الخالطين النزعتين، وأن أساسه المفاضلة بين المذهبين: البصري والكوفي وإيثار المختار منهما.
ولقد أمعنوا في هذا الاختيار، فاصطفوا مسائل ذات بال مزيجا من المذهبين، على أنهم قد أسلمهم هذا الاستقراء البالغ خلال تلك الأيام إلى العثور على قواعد أخرى من تلقاء أنفسهم لا تمت بصلة إلى المذهبين تولدت لهم من اجتهادهم قياسا وسماعا، ذلك لأن سلائق العرب ما انفكت سليمة في البوادي إلى أواسط القرن الرابع الهجري كما تقدم، ومشافهة العلماء لهم حينئذ متيسرة إما بالرحلة إليهم في البادية وهي دانية منهم أو بالسماع منهم في الحضر إذ كان لفيف منهم ينتجعه استجداء للعطاء والتماسا للرزق، فكان ذلك المذهب في عمومه ملفقا من المذهبين مع بعض قواعد استنبطوها، وعلى هذا فمسائله إما كوفية أو بصرية أو مبتكرة بيد أنه لا يعزب عن الذهن أن مسائل المذهب الكوفي المختارة في أول تكوين المذهب الجديد كانت أكثر من البصرية، لأن الكوفيين غلبوا على أمرهم، فكان النفوذ في بغداد لهم، ولم يلبث هذا الشأن أن تغير بعد حين، فبعد موت العصبية وانقراض المتأثرين بها رجعوا إلى تقدير المذهب البصري والتنديد بالكوفي والحط من حججه، فابن الشجري يقول في أماليه "المجلس السادس" عند القضاء في المناظرة السابقة بين الكسائي والأصمعي وقد عرفت ما فيها ما لفظه "ولنحاة الكوفيين في أكثر كلامهم تهاويل فارغة من الحقيقة".
فهذا حكم يعطينا صورة صادقة عن عزوف المتأخرين عن المذهب الكوفي، وقد سلفت الإشارة إلى شيء من هذا عند الموازنة بين المذهبين.