للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[حكمة تخصص كل من المذهبين باتجاهه]

إن ذلك يعتمد في الحقيقة أولا وبالذات على اختلاف نزعتهما الطبيعية، فهي التي توجه كلامهما على حسب ما تقتضيه وتوجبه، ونزعتهما متغايرة لتغاير الموقع الطبيعي للبلدين.

ذلك أن البصرة قد أنشئت على طرف البادية في صقع عاش في الحرية البدوية الآماد الطويلة فلم يمتد إليه نفوذ أجنبي يلين من شكيمته، والعرب النازلون فيها لم يعرهم ما يبدل صلابة عقليتهم العربية وقد تجلى ذلك في كل ما يتصل بهم من علوم وغيرها، أما الكوفة فقد أنشئت على مدني١ من "الحيرة" قاعدة المناذرة قديما في صقع كان تحت إشراف الأكاسرة خانعا لإمرتهم، دبت إليه الروح الفارسية في علومها وأنظمتها من حرية التفكير والعنو٢ لسلطان العقل والدأب على التوسع في الابتكار وانفساح الميدان للآراء، تسربت هذه الروح فيمن توطنها من العرب وأقام فيها، فكانت نزعة الكوفة في عمومها، تخالف نزعة البصرة في عمومها أيضا ولا جرم أن هذا الاختلاف إنما كان بفعل الطبيعة البلدية التي لا يرد قضاؤها في النفوس والعقول والعلوم والدربة وما إلى ذلك، فكان حتما مقضيا أن يسلك البصري في أصول مذهبه مسلك الشدة والمحافظة على المأثور وأن ينهج الكوفى في أصول مذهبه طريق السهولة والرواية، ومن ثمة اختلف مبنى المذهبين في قواعدهما على ما تقدم تفصيلا، والتزام البصري هذا التشديد أمل منه أن يسود اللغة نظام مطرد بقوانين محدودة مستقاة من الأساليب العربية الصحيحة المتضافر على أمثالها، إذ ما من ريب أن اللغة العربية لغات قبائل شتى تغايرت في بعض ألفاظها ولهجاتها وتميزت في شيء من تراكيبها، ذلك أن العربي غير مقيد بضوابط وضعية لا يتخطى حماها، بل يرسل الكلام حسب


١ اسم مكان من دنا.
٢ مصدر عنا يعنو: خضع.

<<  <   >  >>