للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مشيئته في أي غرض كان غير خاضع لنظام يسيطر عليه، وقد ينزع في غير قوسه لتأثره بعامل أجنبي يعرض له فيجانف جادة الطريق في بعض الأحيان، وقد مر في المذهب البصري تعقب ابن أبي إسحاق للفرزدق، وعيسى بن عمر للنابغة، وأبي عمرو لذي الرمة، وعيبهم لعمار الكلبي مع شعره، قال أبو علي الفارسي في تعليل أغلاط العرب: "إنما دخل هذا النحو كلامهم لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها ولا قوانين يستعصمون بها وإنما تهجم بهم طبائعهم على ما ينطقون به فربما استهواهم الشيء فزاغوا به عن القصد" ١.

رأى ذلك البصري وقد رغب رغبة صادقة في وضع قواعد عامة لأنواع الإعراب في جزئيات الكلام عند الاستعمال يجب أن تطبق ويسار على منهاجها بدقة وحزم، ويتحامي بها عن الأساليب المبهرجة٢، فلم يجد بدا من أن يقف عند الشاهد المذعن بصحته المتكاثرة نظائره ضاربا صفحا عما عداه من المرويات الضعيفة، أو الشاذة، أو المنحولة مما يؤدي اعتمادها إلى الفوضى والاضطرابات وعدم الوقوف عند غاية، وذلك كله من البصري نزوع إلى شنشنته٣ الأولى، أما الكوفي فقد حمله على مسلكه احترامه لكل ما ورد مسموعا من العرب وكفى، والتيسير للناس أن يستعملوا استعمالاتهم على مقتضى ما أثر عنهم، فلا ضير على القائل متى حاكى أي استعمال كان، وما القواعد إلا وليدة اللغة فهي ذات السلطان عليها دون العكس، هذا مع الترخيص بالقياس على مقتضى الرأي إذا فقد الشاهد، وما كان ذلك من الكوفى إلا تأثرا بنزعته الطبيعية أيضا.

بذلك ترى أنه قد اتخذ كل من المذهبين سبيلا له خاصة عرف بها حتى صار لكل طابع يحالف طابع الآخر فكان نتيجة ضرورية، لهذا أمران:

"الأول" أن ما كثر من الأمور الأربعة التي تخلفت عن القياس عند


١ المزهر أول النوع الخمسين، معرفة أغلاط العرب.
٢ المعدول بها عن الأساليب العربية السليمة.
٣ الشنشنة: الطبيعة والعادة.

<<  <   >  >>