لا إخالك بعد أن تستحضر ما عرضناه عليك إلا مرجحا كفة مذهب البصريين، ولسنا في حاجة إلى البسط بعد ما فات، غير أنا هنا نلم التشعيب الفائت ليتركز في الذهن ويبقى في الذاكرة، فنقول: إن مذهب البصريين إنما رجح لأنه نشأ على ملاحظة أمور ثلاثة لا يراها الكوفيون:
١- أنهم يؤثرون السماع على القياس فلا يصيرون إليه إلا إذا أعوزتهم الحاجة، وحملهم على هذا سهولة اتصالهم بجمهرة العرب، ولكثرتهم حولهم قد تعصبوا في رواياتهم فلا يحملونها إلا عن موثوق بفطرته، أما الكوفيون فعلى عكسهم فضلوا القياس على السماع في كثير من مسائلهم لتنائيهم عن خلص العرب، ولذا تساهلوا في رواياتهم فتلقوها عن أعراب لا يرى البصريون سلامتهم.
٢- أنهم احتاطوا في أقيستهم فلم يدونوها إلا بعد توافر أسباب الاطمئنان عليها بخلاف الكوفيين الذين تفككوا من قيودهم، ولذا يقول السيوطي:"اتفقوا على أن البصريين أصح قياسا لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع ولا يقيسون على الشاذ"١.
٣- أنهم لا يعولون على القياس النظري عند انعدام الشاهد إلا فيما ندر جدا، أما الكوفيون فطالما جنحوا إليه، وسلفت لك أمثلة من هذا النوع.
فهده الأمور الثلاثة التى تولد عنها الاختلاف بين الفريقين في المسائل الجمة تضافرت في النهوض بمذهب البصريين على الكوفيين، إذ لا ريب أن السماع في اللغة ركن أول لأنها ليست فلسفة يتحكم فيها ميزان العقل والدراية، والتشدد في القياس الذي يؤذن بصحة نظائره حتم لازم، وإلغاء القياس النظري في اللغة مستقيم مع الواقع، هذا حال المذهبين في مجملهما وإن ظفر مذهب الكوفيين في بعض المسائل.