للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المذهب البصري]

لقد كان من حسن الحظ للنحو أن كانت البصرة مولده ومهده لأنها اختصت بما حرمته الكوفة التي ناهضتها بعد ذلك للأمور التالية:

أولا: أن العرب النازحين إليها من القبائل العريقة في اللغة الفصحى استطابوها فاتخذوها دراهم وأكثرهم من قيس وتميم الذين بقوا على عربيتهم.

ثانيا: أنه كان على كثب منهم "المِرْبَدُ" الذي قد اتخذه العرب سوقا في الجهة الغربية منها مما يلي البادية بينه وبينها نحو ثلاثة أميال، يقضون فيه شئونهم قبل أن يدخلوا الحضر أو يخرجوا منه، وقد صارت هذه السوق في الإسلام صورة موازنة لعكاظ الجاهلية، فكانت فيه النوادي الأدبية والمجامع الثقافية تألفت فيه حلقات الإنشاد والمفاخرة والمنافرة والمعاظمة ومجالس العلم والأدب، فكان الشعراء يؤمونه ومعهم رواتهم، وكانت لفحولهم حلقات خاصة فيه، قال الأصفهاني: "وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها"١.

كما كان العلماء والأدباء والأشراف ينزلون فيه للمذاكرة والرواية والوقوف على ملح الأخبار، واللغويون يأخذون عن أهله ويدونون ما يسمعون، والنحويون يسمعون فيه ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم، وكثيرا ما نجد التنويه عنه في تراجم النحاة واللغويين.

ثالثا: موقعها الجغرافي فإنها على طرف البادية مما يلى العراق وأدنى المدن إلى العرب الأقحاح الذين لم تلوث لغتهم بعامية الأمصار فعلى مقربة منها بوادي نجد غربا والبحرين جنوبا، والأعراب تفد إليهم منهما ومن داخل الجزيرة العربية بكثرة، وكل أولئك يسر لعلماء البصرة حينما قاموا بتدوين القواعد أن يجدوا طلبتهم وينالوا رغبتهم، ففي هذه الثلاثة مدد من اللسان العربي الفصيح لا ينفدوهم في بصرتهم مقيمون لا يتجشمون بعدئذ أسفارا ولا يجربون قفارا، إذ لم تشتد الحاجة أولا للرحلة في مدى الطبقتين


١ راجع الأغاني أخبار جرير ج٨ ص٢٩ طبع الدار.
"وراعي الإبل هو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل ويكنى أبا جندل والراعي لقب غلب عليه لكثرة وصفه الإبل وجودة نعته إياها وهو شاعر فحل من شعراء الإسلام".

<<  <   >  >>