خمود خيم عليها حينا، وقد اجتهد علماء كل مملكة في داخلها لقلة التواصل بين المماليك من كثرة الفتن والاضطرابات، فكثرت آراء العلماء الفردية وتراكمت سحب الخلافات، وتنوعت التعليلات النحوية، وتضخمت المؤلفات، إلا أنه لم يعرض مذهب جديد خاص بجمهرة في قطر، غير أنه لما أقبلت الأندلس عليه في عصرها الزاهر واستكانت أقطار المشرق لما انتابها استحدثت الأندلس مذهبا رابعا سنذكر عنه لمحة في موطنه.
وعلى الجملة فقد كان هذا العصر ذهبيا لهذا العلم، ففيه صنفت الموسوعات، واكتشف المكنون من أصدافه، وتعددت ألوان صوره المختلفة في عرضه لاختلاف مشارب الأقطار في مناحيهم الفكرية مع إصابة الجميع الهدف المقصود، بل كان هذا العصر كما يمليه الواقع ذهبيا لعلوم اللغة العربية كافة بالرغم أنه عصر ضعف وانحلال في رابطة الدولة الإسلامية، فإنه قلما عكف بعض علمائه على النحو وما يتصل به، وبعضهم على الأدب وما يرتبط به وبعضهم على اللغة وما يتبعها، شأن السابقين قبلهم في تخصصهم، بل اتسعت آفاق مباحثهم وبذلوا عناياتهم في متنوع فروع العربية فأحاطوا بها مع اختلاف نسبي في العناية ببعضها دون البعض، ولذا فإن كثيرا منهم ربما عده مؤرخو الفنون مرة في اللغويين وثانية في النحويين وثالثة في الأدباء ورابعة في الأصوليين، "فالسيرافي والفارسي وابن جني والتبريزي والزبيدي والبطليوسي لغويون نحويون صرفيون أدباء"، وكذا كثير منهم ممن لست في حاجة إلى التعريف عنه الآن فستعرف ذلك في ترجمته، بل إن بعضهم تجاوز أفق العلوم العربية إلى علوم الشريعة، فالزمخشري لغوي نحوي صرفي بلاغي أديب مفسر متكلم، وابن الحاجب أصولي نحوي صرفي فقيه، وقد امتدت تلك الظاهرة الجديدة إلى من بعدهم من العلماء، ومع هذا فإن الذي سوغ لنا ذكر من نذكر في النحويين شهرتهم الذائعة في النحو دراسة وتأليفا.
نعم كانت هذه الأقطار مختلفة المشارب في نهجها العلمي، تتماثل وتتقارب وتتباعد بمقدار الاتصال والانفصال في مواقعها، فلذا كانت العراق وما يليها شرقا من فارس وخرسان وما يتصل بها غربا من الشام تتشابه في مسلكها، والأندلس والمغرب يتدانيان في مأخذهما، والشام ومصر يتلاقيان في موردهما، وقد بدا لنا تقسيم الحديث عن هذا العلم ورجاله في هذا المطلب على هذا الاعتبار إلى ثلاثة فصول: