للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يحفزهما الدين إلى إحاطة العلماء بالتكريم، والعلماء حفظة الدين ولغة الدين. على كل حال كان طبعيا وحتما مقضيا على هذه الدول أن تصانع شعوبها وتتقرب إلى خواصها للتنافس بينها. والشعوب العربية تواقة إلى استرجاع مجدها الحائل واللغة عندهم عنوان المجد وسبيل الإبقاء على الدين، فلا ريب أنهم عندما تنقشع سحب الاضطرابات وتسكن الثورات يكون أول هم الخواص فيهم أن ينتشروا ما اندرس فيهم مما كادت تذهب الحوادث بأصوله، حقا لقد شعر العلماء بواجبهم إزاء كارثة بغداد التي اجتاحت ثروتهم العلمية، ولولا بقية مما في صدورهم لذهبت وانطمست معالمها، والنحو معبر العلوم فهو أجدرها بالجد والنشاط كما كان أسبقها في التكوين، إلا أن العلماء لم يستطيعوا استعادة مجده القديم في هذه البلاد ذلك الحين لأمرين:

الأول: أن الشغب كان منتشرا في جميع ربوع البلاد الشرقية فالنفوس قلقة والأفكار متبلبلة، والعلم إنما يترعرع في كنف السكون والاستقرار.

الثاني: أن هذه الدول لم تحن على اللغة من أعماق قلوبها لأنها ليست عربية تغار على لغة أصلها، فالتتر إن حدبوا عليها في آخر عهدهم فلاسترضاء شعوبهم، والترك بالطبيعة لا يؤثرونها على لغتهم وستعرف في الفصل الثالث أنهم فرضوها على القطرين بعد فتحهما، والدولة الصفوية كانت تؤثر الفارسية عليها، لكن علماء المشرق مع هذا كله لم يألوا في النهوض بواجبهم في النحو لأنهم نشئوا في المشرق مهد اللغة العربية وعلومها، والبيئة غلابة في توجيه المرء مدة حياته، والنحو أساس اللغة العربية، بيد أنه لا يخفى أن علماء المشرق في العهد المغولي فما بعده يختلف حالهم عن علمائهم قبله، وبعبارة ثانية يختلف حال النحاة بعد سقوط بغداد عن حالهم قبله، فإن السابقين على سقوط بغداد لم يدركهم المذهب الأندلسي، الذي أدرك من كان من المشارقة بعد سقوط بغداد في بلادهم ولذلك عرضت مؤلفات علماء العهد المغولى وما بعده إلى المذهب الأندلسي فالمذاهب التي يفاضلون بينها أربعة: "البصري والكوفي والبغدادي والأندلسي"، بينما أولئك كانوا يوازنون

<<  <   >  >>