العراقين "البصرة والكوفة" وكمل وأوفى على الغاية في بغداد ولما ينقض العصر العباسي الأول وذلك قبل تمام القرن الثالث الهجري.
ولقد تلمسنا تعرف المراحل التي اجتازها هذا العلم طبقا لنواميس النشوء فلكل علم أطوار يمر بها كما يمر الحي بأطوار الحياة وليدا وناشئا وشابا وكهلا في كثير من الكتب التي يخال فيها التعرض لذلك فما وقفنا على ما يشفي الغلة وينير السبيل، فلاح لنا بعد إنعام الفكرة وإطالة النظرة أن نجعل الصلة بين هذه المراحل وبين العلماء القائمين بأمر هذا الفن إذ كان على أيديهم ما نقله من طور إلى آخر.
روى لنا التاريخ أن البصريين هم الذين وضعوه وتعهدوه بالرعاية قرابة قرن، كانت فيه الكوفة منصرفة عنه بما شغلها من رواية الأشعار والأخبار، والميل إلى التندر بالطرائف من الملح والنوادر، ثم تكاتف الفريقان على استكمال قواعده، واستحثهما التنافس الذي جد بينهما واستحرت ناره ردحا من الدهر ينيف على مائة سنة، خرج بعدها هذا الفن تام الأصول، كامل العناصر، وانتهى الاجتهاد فيه، وحينذاك التأم عقد الفريقين في بغداد، فنشأ المذهب البغدادي الذي عماده الترجيح بين الفريقين.
ثم شع نور هذا العلم في سائر البلاد الإسلامية التي احتفظت به بعد أن دالت دولة بغداد العلمية، وفي طليعتها الأندلس في عصرها الزاهر، ومصر المعزية والشام وما يتأخمها.