للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المصرين، يحضرون ويسألون، فقال يحيى قد أنصفت، واستدعاهم فتابعوا الكسائي فأقبل الكسائي على سيبويه وقال له: قد سمع أيها الرجل، فاستكان سيبويه عند ذلك وانقبض خاطره، فقال الكسائي ليحيى: أصلح الله الوزير، إنه قدم إليك راغبا فإن أردت أن لا ترده خائبا، فرق له يحيى وجبر كسره، فخرج من بغداد وتوجه تلقاء فارس يتوارى من الناس من سوء ما لحقه، ولم يقدر أن يعود إلى البصرة، وقد كان إمامها غير منازع، فمات غما بفارس في ريعان شبابه، وقال قرب احتضاره متمثلا:

يؤمل دنيا ليبقى بها ... فمات المؤمل قبل الأمل

حثيثا١ يروي أصول النخيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل

وقد رويت هذه المناظرة على صور مختلفة، ويرى جمهرة العلماء أن إصبع السياسة لعبت دورا كبيرا في هذه الحادثة الخطيرة، لأنها حكم بين البلدين لا بين الرجلين، وما وافقت العرب الكسائي إلا لعلمهم أنه ذو حظوة عند الرشيد وحاشيته، وهم على يقين من أن الحق مع سيبويه، على أنه روي أنهم قالوا: القول قول الكسائي بإيعاز رجال الدولة ولم ينطقوا بالنصب إذ لا تطاوعهم ألسنتهم، ولذا طلب سيبويه أمرهم بالنطق بها لكنه لم يستمع له.

قال "الروداني": "والذي لا ينبغي أن يشك فيه أن ذلك إذا ترك العربي وسليقته، أما لو أراد النطق بالخطأ أو بلغة غيره فلا يشك في أنه لا يعجز عن ذلك، وقد تكلمت العرب بلغة الحبش والفرس واللغة العبرانية وغيرها، وأبو الأسود عربي وقد حكى قول ابنته لأمير المؤمنين علي: ما أشد الحر بالرفع فقول سيبويه في قصته مع الكسائي في مسألة "كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي": مرهم أن ينطقوا بذلك، لا بد من تأويله، كأن يقال المراد من لم يسمع مقالة الكسائي ولم يدر القصة أو نحو ذلك مما يقتضي نطقهم على سليقتهم الذي هو المعيار"٢.


١ حثيثا: مسرعا والفسيل النخيل الصغير يقطع من أمه فيغرس. واحدته فسيلة.
٢ الصبان على الأشموني في الكلام على "ما" العاملة عمل ليس.

<<  <   >  >>