فقد حملتْ في حبة القلبِ والحشا ... عهادَ الهوى تولي بشوقٍ يعيدها
من الخفرات البيض ودَّ جليسها ... إذا ما قضتْ أحدوثة، لو تعيدها
حصانٌ من السوءات للشمسِ وجهها ... وللريمِ منها محجراها وجيدها
مرتجةُ الأطرافِ، هيفٌ خصورها ... عذابٌ ثناياها، عجافٌ قيودها
وصفرٌ تراقيها، وحمرٌ أكفها ... وسودٌ نواصيها، وبيضٌ خدودها
مثقلةُ الأردافِ زانت عقودها ... بأحسنَ مما زينتها عقودها
خليليَّ إني اليومَ شاكٍ إليكما ... وهل تنفعُ الشكوى إلى من يزيدها
حزازاتِ شوقٍ في الفؤادِ، وعبرةً ... أظلُّ بأطراف البنانِ أذودها
وتحت مجالِِ الصدر حرُّ بلابلٍ ... من الشوقِ لا يدعى لخطبٍ وليدها
نظرتُ إليها نظرةً ما يسرني ... بها حمرُ أنعامِ البلادِ وسودها
إذا جئتها وسط النساءِ منحتها ... صدوداً، كأنَّ النفسَ ليستْ تريدها
ولي نظرةٌ بعد الصدود من الهوى ... كنظرةِ ثكلى قد أصيبَ وحيدها
رفعتُ عن الدنيا المنى غيرَ وجهها ... فلا أسالُ الدنيا، ولا أستزيدها
وهذه الأبيات اخترتها من القصيدة، ومما أطربني، حفظتها فلم أسمع ألطف منها ومن ألفاظها الرقيقة، والمعاني الجزلة الرقيقة.
[ومن الشعراء المعرقين]
فاطمة ويزيد ابنا سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. وهؤلاء كلهم شعراء مشهورون، سوى ثابت فإن شعره ضعيف، ليس هو مما يثبت، إنما له البيت والبيتان، فمن ذلك قوله:
ورثنا من البهلولِ عمرو بنِ عامرٍ ... وحارثةَ الغطريفِ مجداً مؤثلا
مواريثَ من أبناءِ بنت أبن مالكٍ ... وبنت أبن إسماعيلَ، ما أنْ تحولا
وابنته خولة بنت ثابت. وحسان بن ثابت عاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، ومات في ايام معاوية. وكانت له ناصية يشدها بين عينيه، وكان يضرب بلسانه أرنبة أنفه، ويكنى أبا الوليد. وأجمع الرواة أم حساناً أشعر المخضرمين. والمخضرمون: من قال الشعر في الجاهلية والإسلام. وهو شاعر رسول الله، وسماه الحسام. وكان شعره يبلغ من المشركين ما يبلغ السيف الحسام، تى أن أحياء كثيرة اسلمت فزعاً من شعره. وبذلك جاءت الأخبار الصحيحة فيه، وفي عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك. ويقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " المؤمن من جاهد بيده ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ينضحو لهم بالنبل ". وفي حديث آخر: " لكلام هؤلاء النفر من الأنصار أشد على قريش من نضح النبل، وأن الروح لتحضرهم بالتوفيق ".
وممن أسلم من شعر حسان: الزبعري.
وقيل أشعر المسلمين ثلاثة: عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت. وكان عبد الله يعيرهم بالكفر، وكان كعب يخوفهم الحرب، وكان حسان يقدح في أنسابهم، لأنه يعرف الأنساب معرفة جيدة. ولما ألح أبو سفيان في هجو رسول الله، صلى لله عليه وسلم استأذنه ابن رواحة وكعب في هجائه فسكت.
وأما شعراء المشركين: فعمرو بن العاص، وابن الزبعري، وأبو سفيان بن الحرث. وبالاسناد عن عائشة قال: لما هجا المشركون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ألا أحد يجيب عنا؟ قالت: فدعونا عبد الله بن رواحة يعارضهم. فعيرهم بالأيام والوقائع والكفر، فلم يبلغ ما يريد. قالت: فدعونا حساناً، فأخرج لسانه، فضرب به أرنبة أنفه، وقال: والذي بعثك بالحق، ما أحب أن لي مقولاً به في معد. قال: كيف وأنا منهم؟ قال: اسلك منهم مثل الشعرة من العجين. قال: يا ابا بكر: قم فعلمه تلك الصفات. قالت عائشة: فشفى وأشتفى. وفي رواية أن جبرائيل عليه السلام أعان حساناً بسبعين بيتاً. فهذا تأويل دعاء رسول الله، صلى الله عليه: " اللهم أيد حساناً بروح القدس "، وقال له: " اهج المشركين، وروح القدس معك ". وفي حديث آخر: لما وفد وفد بني تميم وضع النبي صلى الله عليه لحسان منبراً فأجلسه عليه.
وفي رواية أن عمر بن الخطاب مر بحسان وهو ينشد في المسجد، فزجره ونهاه، فقال: قد أنشد من كان خيراً منك، يعني رسول الله.
وقيل: إن الحارث بن عوف أتى رسول الله فقال: أجرني من شعر حسان، فلو مزج البحر بشعره مزجه.
وحسان ممن وجفد على الملوك في الجاهلية، وأخذ الجوائز. ولما احتضر الحطيأة قال: أبلغوا الأنصار أن أخاهم أمدح الناس، حيث يقول: