ألا في سبيل الله سوفتُ توبتي ... ودفعتُ أيامي، وفرطتُ في أمري
إذا كنتُ قد جاوزتُ سبعينَ حجةً ... ولم أتأهبْ للمعادِ، فما عذري
أمني البقا نفسي أحاديثَ ظلةً ... وقد أشرفتْ بي الحادثاتُ على قبري
وكان أبو عتاهية ي قول: إن المكارم موصولة بالمكاره، فمن أراد مكرمة إحتمل كروهاً. وولد أبو عتاهية في سنة إحدى وثلاثين ومائة، وتوفي في أيام المأمون سنة عشر ومائتين.
[ذكر أبي عبد الله محمد بن ابي عتاهية]
لم تكن لمحمد غزارة أبيه في الشعر، ولكنه كان ذا طبع مجيب بغير تكلف، وفي شعره لين. ومن شعره يرثي أباه:
أيا دهرُ كم لكَ من بائقهْ ... وكمْ لك من نكبةٍ طارقهْ
فكمْ لكَ من غمزةٍ في القلوبِ ... وكمْ لكَ من دمعةٍ دافقهْ
إذا درجَ القرنُ في وقتهِ ... فإنَّ القرونَ به لاحقهْ
عوالقُ دنياكَ مسمومةٌ ... توقَّ، فقد تقتل ُالعالقهْ
أيا كبدً مالها سكنةٌ ... فتسكن أحشاؤهُ الخافقهْ
كأنَّ وسادي على جمرةٍ ... به، في توقدها، لاصقهْ
أبي يا صريعَ ثرى حفرةٍ ... نعيتَ بألسنةٍ ناطقهْ
وقد كنتَ تنعى برجمِ الغيو ... بِ، فقد جاءتِ النعيةُ الصادقهْ
وله يرثي أباه:
يا أبي ضمكَ الثرى ... وطوى الموتُ أجمعكْ
ليتني يومَ متَ صر ... تُ إلى حفرةٍ معكْ
رحمَ الله مصرعكْ ... بردَ الله مضجعكْ
ولأبي عبد الله محمد ولد يقال له أبو سويد عبد القوي بن محمد بن ابي عتاهية. وهذا كان متقدماً في صناعة الكلام، ألد في الجدال. وله كتب مؤلفة في الرد على أهل البخل، وله معان مستحسنة، وكان مطبوعاً، ظريفاً، دعباً. ومن شعره يرثي أمه، وإن كان معنى قد سبق إليه:
يقولُ أناسٌ: قد جفا قبرَ أمهِ ... وما قبرها إلا الفؤادُ الذي فجعْ
لقد ضاقَ بي من عالم الله كلهِ ... عشيةَ أودتْ روحها كلَّ متسعْ
وله فيها أيضاً:
بادَ أنسي، فربعُ دار ... ي من الأنسِ مقفرُ
كيفَ يقلا قبرٌ هو ال ... قلبُ، أمْ كيف يهجرُ
من فؤادي دونَ الأما ... كنِ أمي ستحشرُ
[المعرقون من الرجاز]
[ومن المعرقين في شعر الرجز، وهم الرجاز]
عقبة بن رؤبة بن العجاج، وحومة أخت رؤبة شاعرة أيضاً.
حدث أبو دهمان الغلابي قال: حضرت مجلساً فيه بشار وعقبة بن رؤبة وابن المقفع، فتحادثوا، وتناشدوا، فأنشدهم بشار أرجوزته:
يا طللَ الحيِّ بذاتِ الصمدِ
بالله خبرْ كيفَ كنتَ بعدي
فسمع فيها عقبة كثرة الغريب، فاغتاظ، وقال: أنا وأبي وجدي فتحنا الغريب للناس، وإني، والله، لخليق أن أسده عليهم.
فقال بشار: رحمهم الله، فقال عقبة: أتستخف بهم، وأنا شاعر بن شاعر ابن شاعر؟ فقال له، يتماجن عليه: أنت إذاً من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس، طهرهم تطهيرا.
[ذكر العجاج]
ولد العجاج وأبو النجم جميعاً بالقاعة. والقاعة أرض بكر بن وائل دون البحرين. وهو العجاج بن رؤبة، وهو أول من أطال الرجز، وكان في الرجاز ك امرئ القيس في الشعراء. وقيل ليونس: من أشعر الناس؟ فقال: العجاج، قيل: لم نسأل عن الرجاز، قال: واشعر أصحاب القصيد، إنما الشعر كله كلام، فأجودهم كلاماً أشعرهم، ليس في شيء من شعر العجاج شيء من الكلام يستطيع قائل أن يقول: لو كان مكانه غيره كان أجود. قال العجاج:
قد جبرَ الدينَ الإلهُ فجبرْ
وهي نحو من مائتي بيت، وهي مقيدة القافية، فلو أطلقت قوافيها كلها كانت منصوبة.
وسئل الأصمعي عن أشعر الرجاز، فقال: العجلي، ثم السعدي، ثم العجلي، ثم السعدي. يريد بالعجلي الأول: الأغلب، وبالسعدي الأول: العجاج، وبالعجلي الثاني: أبا النجم، وبالسعدي الأخير: سليمان بن رؤبة.
وإنما سمي شعر الرجز رجزاً لتدارك أجزائه. وهو مأخوذ من الإرتجاز، وهو صوت الرعد المتدارك. والرجز مصدر يرجزون ويرتجزون إرتجازاً. الواحدة أرجوزة، والجمع الأراجيز. قال أبو عبيدة: قال العجاج أبياتاً من رجزه في الجاهلية، ولم يدرك سلطان سليمان بن عبد الملك. وقال له عبد الملك بن مروان: أتحسن الهجاء؟ قال: إن لنا حلماً يمنعنا أن نظلم، وعزاً يمنعنا أن نظلم.