شرفوا دهرهم، وشرفهمْ من ... همْ إمامٌ قد شرفَ الايمانا
لو رأوهُ صلوا عليه، وألفو ... هُ إماماً يدعونهُ مولانا
فلهذا أجنى لهم ذكر فخرٍ ... قد غدا، في كتابهم، عنوانا
وفيه ايضاً:
قسماً لو رأتهُ يوماً قريشٌ ... فضلتهُ على بني البطحاءِ
أو أتاهمْ يومَ السقيفةِ لم يل ... تفَّ للعذرِ سعدها بكساءِ
وفيه أيضاً:
يروي الخلافةَ فيه عن آبائهِ ... بأصحّ إسنادٍ، وعن أعمامهِ
أعطى إلى أن لم يدع في عصرهِ ... ذا فاقةٍ شكواه من إعدامهِ
وإذا حبا البحرُ السحاب بمائهِ ... فغلامهُ يعطي الندى لغلامهِ
تجدُ العفاةَ ببابهِ، فتظنهمْ ... من كثرةِ الإكرامِ، من ألزامهِ
فمن شعراء الكتاب من كان شعره حسناً، وله سعادة. ومنهم من كان شعره جيداً، وكان متجملاً. ومنهم من جمع بين السعادة وجودة الشعر. فممن نذكره في هذا الباب، في دولة بي العباس: يعقوب بن الربيع، وغبراهيم بن العباس الصولي، وسعيد بن حميد، وأحمد بن يوسف، والحسن بن وهب، ومحمد بن عبد الملك، والحسن بن رجاء، وجابر بن يزيد الكاتب، وإبراهيم بن المدبر، وعلي بن يحيى.
[ذكر يعقوب بن الربيع]
كان يعقوب شاعراً حلواً، طريفاً، مقبولاً. وأكثر شعره، الذي اشتهر عنه، ما رثى به ملك جاريته. ولها وله قصة عجيبة، وحكاية غريبة. وذلك أنه هوى جارية اسمها ملك، هوى كاد يتلفه. وبقي سبع سنين يجتهد في تحصيلها، ويبذل في ثمنها كل ما يقدر عليه، فلا يتهيأ له. فلما رأى أهله ما يحل به، ويقاسي من البكاء والحزن، عذلوه ولاموه، ثم حثوه على مداومة اللهو ومعاقرة الشراب، والتسلي بغيرها، لعسى يجد في ذلك بعض سلو وراحة مما هو عليه من عذاب المحبة. فأجاب إلى ذلك اياماً، فما رؤي يزداد إلا غراماً على غرامه، وهياماً على هيامه. فترك ذلك، ورفض اللهو والشراب، وقال:
زعموا أنَّ من تشاغلَ بالله ... و، سلا عن حبيبهِ، وأفاقا
كذبوا، ما كذا بلونا، ولكن ... لم يكونوا، فيما أرى، عشاقا
كيف شغلي بلذةٍ عنكِ، واللذ ... اتُ يحدثنَ لي إليكِ اشتياقا
كلما رمتُ سلوةً، تذهبُ الحر ... قةَ، زادتْ قلبي عليكِ احتراقا
وله أيضاً:
زعموا أنَّ منْ تشاغلَ باللذ ... اتِ عمن يحبهُ يتسلى
كذبوا، والذي تقادُ له البد ... نُ، ومن طاف بالحجيجِ وصلى
لرسيسُ الهوى أحرُّ من الجم ... رِ على قلبِ عاشقٍ يتقلى
والناس في طريق السلو على اختلاف. فمنهم من زعم أن التشاغل يسلي، ومنهم من زعم أن الأسفار وإدمان السير يسلي، ومنهم من زعم أن قطع الرجاء واستعمال اليأس يسلي ومنهم من زعم أن العاشق إذا تسلى بمن يماثل محبوبه، أو يماثله ويشغل قلبه بمحبوب آخر يتسلى. وسنذكر في ذلك ما يسنح.
فمن صرف الهوى إلى غير من يهوى، زعم أن ذلك زاد غرامه وصبابته، وهيج شوقه وكآبته. وقال دعبل:
ولما أبى إلاّ جماحاً فؤادهُ ... ولم يسلُ عن ليلى بمالٍ، ولا أهلِ
تسلى بأخرى غيرها، فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلى، ولا تسلي
وقال الآخر خلاف ذلك:
ولما رأيتكِ خوانةً ... ترينَ القبيحَ فعالاً جميلا
تسليتُ عنكِ بما لا أحبُّ ... ودبَّ السلوّ قليلاً قليلا
وقال الآخر:
سألتُ المحبينَ الذينَ تكلفوا ... تكاليفَ هذا الحبِّ في سالفِ الدهرِ
فقالوا: شفاءُ الحبِّ حبٌّ يزيلهُ ... لآخرَ، أو نأيٌ طويلٌ على بحرِ
وقال الآخر:
إذا ما شئتَ أنْ تسلو حبيباً ... فأكثرْ دونهُ عددَ الليالي
وقال الآخر يرد ذلك:
وقد زعموا أنَّ المحبَّ إذا دنا ... يملُّ، وأنَّ النأي َيشفي من الوجدِ
بكلٍّ تداوينا فلم يشفَ ما بنا ... على ذاكَ قربُ الدارِ خيرٌ من البعدِ
فقال دعبل يرد ذلك:
فلا البعدُ يسليني، ولا القربُ نافعي ... وفي الطمع الأدناءُ، واليأسُ لا يبري
وقال الآخر:
تداويتُ من ليلى بليلى من الهوى ... كما يتدوى شاربُ الخمرِ بالخمرِ
يقولونَ عن ليلى صبرتَ، وإنما ... بيَ اليأسُ من ليلى، وما بيَ من صبرِ
وقال الآخر، وهو مليح: