أصدُّ، وما الهجرُ الذي تحسبينهُ ... عزاءً بنا، إلا ابتلاع العلاقمِ
حياءً وبقيا أن تشيعَ نميمةٌ ... بنا، وبكم، أفٍ لأهلِ النمائمِ
وإنَّ دماً لو تعلمين جنيتهُ ... على الحيّ جانٍ مثله غير سالمِ
أما إنهُ لو كان غيرك أرقلتْ ... إليه القنا بالراعفاتِ اللهاذمِ
ولكنْ، وبيتِ الله ما طلَّ مسلماً ... كغرّ الثنايا واضحاتِ الملاغمِ
إذا هنَّ ساقطنَ الأحاديثَ للفتى ... سقوطَ حصى المرجانِ من سلكِ ناظمِ
رمينَ فأقصدنَ القلوبَ، ولا ترى ... دماً مائراً إلا جوىً في الحيازمِ
قوله: ساقطنا الأحاديث من قول جميل بن معمر العذري، وعمر بن أبي ربيعة.
فأما قول جميل:
ما صائبٌ من نابلٍ قذفتْ بهِ ... يدٌ وممرُّ العقدتينِ وثيقُ
له من خوافي النسرِ حمٌّ نظائرٌ ... ونصلٌ كنصلِ الزاغبي فتيقُ
قوله: فتيق يعني حاد، والزاغبي منسوب إلى رجل من الخزرج يقال له: زاغب.
على نبعةٍ روداء، أما خطامها ... فمتنٌ، وأما عودها فعتيقُ
بأوشكَ قتلاً منكِ يومَ رميتني ... نوافذَ لم يظهر لهنَّ خروقُ
والذي قاله عمر بن أبي ربيعة:
وأصابتْ مقاتلي بسهامٍ ... نافذاتٍ، وما تبينَ كلمُ
بحديثٍ بمثلهِ تنزلُ العص ... مُ، رخيمٍ، يشوبُ ذلك حلمُ
ومن مراثيه المستحسنة:
يرومُ جسيماتِ العلى فينالها ... فتىً من جسيماتِ المكارمِ راغبُ
فإن تمسِ وحشاً دراهُ، فلربما ... تواضحُ أفواجاً إليها المواكبُ
يحييونَ بساماً كأنَّ جبينهُ ... هلالٌ بدا، وانجابَ عنه السحائبُ
وما غائبٌ منْ يرجى إيابهُ ... ولكنهُ من غيبَ الموتُ غائبُ
وقال الآخر:
ولم تنأ دارٌ من مرجىً إيابهُ ... وتنأى بمن رصتْ عليهِ الحفائرُ
وقال الآخر:
كلُّ ذي غربةٍ سيرجعُ يوماً ... غيرَ غيابِ زائراتِ القبورِ
وأول من ابتدع هذا المعنى في قوله:
وكلُّ ذي غيبةٍ يؤوبُ ... وغائبُ الموتِ لا يؤوبُ
وأنشد محمد بن يزيد لأبي حية، وهو مما يفضل لتلخصه من التكلف:
رمتني، وسترُ الله بيني وبينها ... ولكنَّ عهدي بالنضالِ قديمُ
[ذكر ماني المجنون]
كان ماني شاعراً مفلقاً مبرزاً. فمن شعره:
وكأنما نهكتْ قوى أجفانهِ ... بالراحِ، أو سبيتْ بإغفاءِ
لو صافحَ الماءَ القراحَ بكفهِ ... لجرتْْ أناملهُ مع الماءِ
يرنو إلى نعمٍ بلحظةِ مسعفٍ ... ولسانهُ وقفٌ على لاءِ
ماءُ النعيمِ بخدهِ متقطرٌ ... والصدغُ منه كعطفةِ الراءِ
وقوله، وقد جاء في بيت واحد، بمعنيين، وابن الرقع جاء في بيتين بمعنى واحد. وروي عن الأصمعي أنه قل: أحسن ما قيل في العين قول ابن الرقاع:
وكأنها بين النساءِ أعارها ... عينيهِ أحورُ من جآذرِ جاسمِ
وسنان أقصدها النعاسُ، فرنقتْ ... في عينه سنةٌ، وليسَ بنائمِ
وروي عن إسحاق بن خلف، وكان شاعراً لأبي دلف، قال: قدم أبو دلف من بعض حروبه، وقد فتح الله على يديه، وكان له فرس قد وجد بركة في لقاء العدو، وهو راكبه، وإذا دخل المدينة ركبه. فعن لي أن أنظم شعراً في المعنى، وقد جازت جيوشه وجنوده. فأنا قائم ألوك الشعر وأفكر في النظم، رأيت رجلاً وفي يده قطعة تمر يأكلها، فلما سمع همهمتي بالشعر أنصت له، وترك أكل التمر، وقال لي: أ، ت شاعر. فأطرقت وأقبل أبو دلف، فوقفت له بباب الرصافة، فأنشأت أقول في الفرس:
كمْ كمْ تجرعهُ المنونُ فيسلمُ ... لو يستطيعُ شكا إليكَ له الفمُ
في كلِّ منبت شعرةٍ في جلدهِ ... خطٌ ينمقهُ الحسامُ المخذمُ
ما تدركُ الأرواحُ أدنى جريهِ ... حتى يفوتَ الريحَ، وهو مقدمُ
رجعتهُ أطرافُ الأسنةِ أشقراً ... واللون أدهم حين ضرجهُ الدمُ
وكأنما عقدَ النجومَ بطرفهِ ... وكأنه بعرا المجرةِ ملجمُ
فنظر ملياً وقال، وهو يأكل التمر، إسمع:
كراتُ لحظكَ في العدى ... تغنيكَ عن سلِّ الذكورِ
فسمع أبو دلف قولي وقوله، فقل لي: ما قلت مثل هذا. ثم طلب فهرب. وذكر أن جماعة تحدثوا عند ماني على أجود ما قيل في صفة الشعر، فقل شخص منهم: أحسن ما قيل قول كثير: