ما من أبي دلفٍ سوى دلفٍ ... في البأسِ والأفضالِ من خلفِ
جادتْ يداهُ بفضل نائلةٍ ... حتى رماهُ الناسُ بالسرفِ
يمضي عزيمتهُ، وراحتهُ ... تقضي على الأموالِ بالتلفِ
أوفتْ على قللِ العلاءِ بهِ ... هماتُ ذي هممٍ، وذي شرفِ
أبلغْ أبا عدنانَ عن سكنٍ ... شعراً، قريبَ العهدِ بالصحفِ
لكنهُ ستطولُ مدتهُ ... ويسيرُ سيرَ الراكبِ العنفِ
إذ كنتَ تمتدحُ المديحَ كما ... قد كانَ يمدحهُ أبو دلفِ
فمديحهُ إعطاءُ نائلةٍ ... عفواً، بلا منٍّ، ولا سرفِ
ومن أشعار الإماء وأخبارهم مما لا يعرف كثير. وقد بلغني أن بعض الجواري كانت تهوى سيدها، فباعها، فاشتد وجدها عليه، فقالت:
نأتْ دارُ من أهوى فما أنا صانعُ ... أمصطبرٌ للبينِ، أم أنا جازعُ
كفا حزناً أني تحنيتُ عامداً ... ولم أخشَ فجعَ البينِ، والبينُ فاجعُ
فإن تمنعوني أنْ أبوحَ بحبهِ ... فليسَ لقلبي من جوى البين مانعُ
فلما سمع المشتري شعرها ردها إلى مولاها. وبلغ ذلك عبد الله بن طاهر، فكتب إلى نائبه أبي القاسم، يأمره أن يتعرف خبرها ويمتحنها. فركب أبو القاسم إلى مولاها، فأقرأه الكتاب، فأخرج إليه الجارية، فامتحنها عنتاً، وقال:
بديعُ صدٍّ، قريبُ هجرٍ ... جعلتهُ منه لي ملاذا
فقالت:
فعاتبوهُ، فقال كبراً، ... إنْ ماتَ عشقاً يكونُ ماذا؟
فقال:
قد ماتَ من قبلهِ جميلٌ ... وعروةٌ ماتَ قبلَ هذا
فقالت:
فكلهمْ ذواقَ كأسَ حتفٍ ... والحبُّ، يا عاذلي، على ذا
فكتب نائب عبد الله بن طاهر بما شاهد، فأمره أن يشتريها. فورد الكتاب، وقد ماتت الجارية.
[شعر المجانين]
[وما نخبره من أشعارهم]
وليس مذهبنا في ذلك أن نذكر مثل مجنون مشهور، مثل مجنون بني عامر، وفيه وفي نظرائه اختلاف. ولكنا ذكرنا من المتميزين، الذين غلبت عليهم السوداء والاحتراق، ثم تعود إليهم عقولهم. ولجماعة منهم نوادر ق جمعها بعض العلماء.
فأردنا أيضاً أن نذكر غير الذي ذكر من نوادر أولئك، ولم نذكر سوى أشعارهم، وعدلنا عن ذكر نوادرهم. إذ كان غرضنا التنبيه على الشعراء على اختلافهم.
وهم: أبو حية النميري، واسمه الهيثم بن الربيع. ومنهم: ماني، وبهلول، وجعيفران، والعباس المشوق، وخالد الكاتب. وغرضنا في هذا الكتاب الاختصار الذي ما بعده اختصار.
[ذكر أبي حية النميري]
ذكر الجاحظ: أنه كان أجن من جعيفران وأشعر. وروى المبرد عن الأصمعي أنه سئل عن المجنون المسمى قيس بن معاذ، فقال: لم يكن مجنوناً، وإنما كانت به لوثة كلوثة أبي حية. يقال: رجل ألوث، إذا كان به هوج. ورجل به لوثة، أي اختلاط وفساد واسترخاء. ولأبي حية:
ألا حيِّ أطلالَ الرسومِ، البواليا ... لبسنَ البلى، لما لبسنَ اللياليا
تحملَ منها الحيُّ، وانصرفتْ بهم ... نوىً، لم يكنْ منَ قادها لكَ آويا
حنتكَ الليالي، بعدما كنتَ مرةً ... سوىً كالعصا، لو كنَّ يبقينَ باقيا
إذا ما تقاضى المرءَ يومٌ وليلةٌ ... تقاضاهُ شيءٌ لا يملُّ التقاضيا
وهمّ طرا من بعد ليلٍ، ولا ترى ... لهمٍّ طرا مثل الصريمةِ ماضيا
وإني لمما أنْ أجشمَ صحبتي ... ونفسي والعيسَ العمومَ الأقاصيا
ويقول فيها:
أصابوا رجالاً آمنينَ، وربما ... أصابَ بريئاً جرمُ منْ كان جانيا
فلما سعى فينا الصريخُ، وطالما ... نلبيهِ، أنجدنا اللهيفَ المناديا
بأسدٍ على أكتافهنَّ إذا عصوا ... بأسيافهم كانوا حتوفاً قواضيا
بأسيافِ صدقٍ في أكفِّ عصابةٍ ... كرامِ أبوا في الحربِ إلا
ومن نادر شعره ورقيق غزله يصف امرأة حال استتارها:
فأرختْ قناعاً دونهُ الشمسُ، وأتقتْ ... بأحسنِ موصولينِ: كفٍّ ومعصمِ
وهذا البيت يفضل على بيت النابغة في قوله:
سقطَض النصيفُ، ولم تردْ إسقاطهُ ... فتناولتهُ، واتقتنا باليدِ
ومن شعر أبي الحية المشهور المستطرف، من قصيدة أولها:
أأبكاكَ رسمُ المنزلِ المتقادمِ
وخبركِ الواشونَ أنْ لا أحبكمْ ... بلى وستورِ الله ذاتِ المحارمِ