فإنْ تسلُ عنكَ النفسُ، أو يذهلُ الهوى ... فباليأسِ أسلو عنكِ، لا بالتجلدِ
وقال الحارث بن حلزة:
ويئستُ مما قد شغفتُ بهِ ... منها، ولا يسليكَ كاليأسِ
وقال الآخر يرد هذه الأقاويل:
أرى الألفَ يسلو للتنائي وللهوى ... ولليأسِ، إلاّ أنني لستُ ساليا
وقال الزبير بن بكار:
ولما بدا لي أنها لا تحبني ... وأنَّ فؤادي ليسَ عني بمنجلِ
تمنيتُ أنْ تهوى سوايَ، لعلها ... تذوقُ حراراتِ الهوى، فترقُّ لي
ثم قال الآخر: طريقنا إلى السلو وبرد الأكباد من الغرام والاكتئاب، وكأنه أصاب في هذا الباب:
شفاءُ الحبِّ تقبيلٌ وضمٌّ
وقال بعض أهل العصر:
والله ما يشفي المحبَّ ... سوى اعتناقٍ والتزامِ
ودوامِ ما تختارهُ ... حتى تملَّ من الدوامِ
رجعنا إلى قصة يعقوب بن الربيع وقصة ملك، التي كان يهواها. قال: فلما جاوز السبع سنين ظفر بها، فلم تلبث عنده إلا ستة أشهر، ثم ماتت. فناله من الحزن والجزع عليها أكثر مما كان يلقاه من حبها. فما رثاها به قوله:
إنما حسرتي، إذا ما تفكر ... تُ، عنائي بها، وطولُ طلابي
لم أزلْ في الطلابِ سبعَ سنينٍ ... أتأتى لذاكَ من كلِّ بابِ
فاجتمعنا على اتفاقٍ وقدرٍ ... وغنينا، من فرقةٍ، باصطحابِ
أشهرٌ ستةٌ صحبكِ فيها ... كنَّ كالحلمِ، أو كلمعِ السرابِ
فأتى في شعره بجملة خبره. وقال في شعر آخر:
خلسَ الزمانُ أعزَّ مختلسِ ... ويدُ الزمانِ كثيرةُ الخلسِ
لله هالكةٌ فجعتُ بها ... ما كانَ أبعدها عن الدنسِ
أتتِ البشارةُ والنعيُّ معاً ... يا قربَ مأتمها من العرسِ
فشاركه في هذا المعنى جماعة. وألطف ما سمعت قول لبابة بنت علي بن المهدي، وكانت زوجة الأمين، فقتل ولم يدخل بها:
أبكيكَ لا للنعيمِ والأنسِ ... بل للمعالي والرمحِ والفرسِ
أبكي على فارسٍ فجعتُ بهِ ... أرملني قبلَ ليلةِ العرسِ
ولإبراهيم بن المهدي يرثي ابنه أحمد:
بكيتُ على أحمدَ المختلسْ ... بدمعٍ يردُّ مجاري النفسْ
وناديتُ في القبرِ جثمانهُ ... فلا الرمسُ ردَّ، ولا المرتمسْ
ويومُ وفاتكَ يومُ الملاكِ ... ويومُ الختانِ، ويومُ العرسِ
وممن أجاد وبرز في وصف قرب الحياة من الممات محمد بن حسان، في قوله يرثي ولده أحمد، وقد توفي طفلاً:
هيي لأحمدَ في الثرى بيتُ ... وخلا لهُ من أهلهِ بيتُ
فكأنَّ مولدهُ ومأتمهُ ... صوتٌ دعى، فأجابه صوتُ
ولمحمد الأموي يرثي طفلاً له:
فطمتكَ المنونُ قبلَ الفطامِ ... واعتراك اَلنقصانُ قبلَ التمامِ
بأبي أنتَ ظاعنٌ، لم أمتعْ ... بوداعٍ منهُ، ولا بسلامِ
ومن أحسن ما سمعت في هذا الباب للتهامي في طفل له:
يا كوكباً ما كان أقصر عمره ... وكذا تكون كواكب الأسحار
وأحسن من هذا لابن رومي:
بنيَّ الذي أهدتهُ كفاهُ للثرى ... فيا عزةَ المهدى، ويا خسرةَ المهدي
لقد قلَّ بين اللحدِ والمهدِ لبثهُ ... فلم ينسَ عهدَ المهدِ، إذ ضمَّ للحدِ
عجبتُ لقلبي كيفَ لم ينفطرْ لهُ ... ولو أنهُ أقسى من الحجرِ الصلدِ
وهذا باب يطول. وقال يعقوب، أيضاً، يرثي ملكاً:
أمرُّ بقبرٍ فيهِ ملكٌ مجانباً ... كأنيَ لا أعنى بصاحبةِ القبرِ
أمرُّ إذا جاوزتهُ متلفتاً ... تلاحظهُ عيني، ودمعتها تجري
فلو أنني إذْ حلَّ وقتُ حمامها ... أحكمُ في عمري، لشاطرتها عمري
فحلَّ بنا المقدارُ في ساعةٍ معاً ... فماتتْ ولا أدري، ومتُّ ولا تدري
فإن ْتبقني الأيامُ للدهرِ لعبةً ... فقد كنت، قبل اليومِ، ألعبُ بالدهرِ
وهذا معنى مليح جداً. وقد تقدم في ذلك قول بشار:
الله صيرها وصورها ... لاقتكَ، أو أتبعتها ترها
نصباً لعينكَ لا ترى نزهاً ... إلا ذكرتَ بها لها شبها
إني لأشفقُ أن أؤخرها ... بعدي، وأكره ُأنْ أقدمها
وقول الآخر مطبوع:
لا متُّ قبلكَ، بل حيينا ... نكوي قلوبَ الحاسدينا
نحيى جميعاً، والسرو ... رُ لنا جميعاً ما حيينا