للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإذا المنيةُ أقصدتْ ... كنا جميعاً ميتينا

ومن هاهنا أخذ محمد بن يزيد:

لا متُّ قبلكَ يا أخي، لا بخلةً ... بالنفسِ عنكَ، ولا تمتْ قبلي

وبقيتَ لي، وبقيت منكَ كذا ... متمتعينِ بأجمعِ الشملِ

حتى إذا حضرَ الحمامُ لبيتنا ... فرمى لمدةِ غايةِ المهلِ

متنا جميعاً، لا يؤخرُ واحدٌ ... عن واحدٍ، لحرارةِ الثكلِ

وكفاكَ من نفسي شهيدٌ صادقٌ ... يا صاحِ إنكَ عندها مثلي

وحكى الأصمعي قال: عرضت على الرشيد جاريتان، فقالت الأولى منهما وسابقت: السابقون السابقون، أولئك المقربون. ثم تقدمت الثانية فقالت: وللآخرة خير لك من الأولى، فاشتراهما لظرفهما. فقلت: يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أفاكههما؟ قال: شأنك. فقلت لإحداهما: من أحسن عيشاً؟ قالت: من قنع ثن ساعده القدر، فاستمتع بهواه قبل أن تخلفه الأيام. ثم أقبلت على صاحبتها لأسألها، فقالت: يا بغيض، الجواب واحد، والقلوب متفقة، ولا فرق بيننا، ونحن كما قال الشاعر:

نحيى معاً، ومعاً نمو ... تُ، ولا نموت، كذا، سريعا

وكما اجتمعنا في الحيا ... ةِ، نفارقُ الدنيا جميعا

وله أيضاً فيها:

يا أعظمٌ بليتْ في قعرِ مظلمةٍ ... في حفرةٍ قد سلا عنا بواكيها

لو تسمعينَ دعائي لاستجبتِ له ... وهلْ تجيبُ عظامٌ منْ يناديها

صوتٌ يناديكِ أنْ لو تعلمين بهِ ... أغررتِ دعوتهُ ألا تجيبيها

هذا الذي كنتِ في الدنيا ضجيعتهُ ... لم تستعضْ نفسهُ إلفاً يسليها

وله أيضاً:

حتى إذا افترَّ اللبانُ، وأصبحتْ ... للموتِ قد ذبلتْ ذبولَ النرجسِ

وتسهلتْ منها محاسنُ وجهها ... وعلا الأنينَ تحثهُ بتنفسِ

رجعَ اليقينُ مطامعي يأساً، كما ... رجعَ اليقين مطامع المتلمسِ

فلما أكثر يعقوب المراثي وأفرط، وبقي لا ينام الليل، وقل أكله، وكثر جزعه، خيف عليه الهلاك. وكان لملك رفيقة يقال لها طرب أنس بها، فاشتروها له، وأمروها بمداعبته وملازمته، ليسلو بها عن ملك. فكان ذلك كما راموا، أن طرباً تمكنت من قلبه. فقال:

فجعتُ بملكٍ وقد أينعتْ ... وتمتْ، فأعظمْ بها من مصيبهْ

فأصبحتُ مغترباً بعدها ... وأمستْ بحلوانَ ملكٌ غريبهْ

أراني غريباً، وإن أصبحتْ ... منازلُ أهلي مني قريبهْ

حلفتُ على أختها بعدها ... فصادفتها ذاتَ عقلٍ، أديبهْ

وقلتُ لها: مرحباً، مرحباً ... بوجهِ الحبيبةِ أختِ الحبيبهْ

سأصفيكِ ودي حفاظاً لها ... كذاك الوفاءُ بظهر المغيبهْ

أراكِ كملكٍ، وإنْ لم تكنْ ... لملكٍ من الناسِ عندي ضريبهْ

فلم تلبث، أيضاً، طرب أن لحقت بملك. فلقي جهداً، واشفى على الموت، وقال:

لقد سخنتْ عيني بملكٍ، وسهدتْ ... فما رقدتْ حتى وصلتُ سهادها

وكانتْ لنا نارٌ توقدُ في الحشا ... فما خبأتْ، حتى شببتُ وقودها

أنستُ بروعاتِ المصائبِ بعدها ... وبعدكِ، حتى ما أبالي مزيدها

رأيتُ ثيابَ الناسِ في كلِّ مأتمٍ ... إذا اختلفوا، بيضَ الثيابِ وسودها

وإني على ملكٍ لبستُ ملاءةً ... من الحزنِ لم يبلِ الزمانُ جديدها

قال مؤلف الكتاب: وجدت أبا الحسن محمد بن عبد الله الموصلي، مؤلف كتاب أصناف الشعراء قد أطنب في وصف بيت واحد في هذه القطعة، وهو:

أنستُ بروعاتِ المصائبِ بعدها ... وبعدكِ، حتى ما أبالي مزيدها

وذكر أنه من نادر الشعر، مع ما فيه من الجزالة والرقة. وللخنساء في معنى هذا البيت، ولليلى الأخيلية، ولخرنق بنت هفان، وعقيل بن علقمة. فأما الخنساء فقالت:

وقائلةٍ، والنفسُ قد فاتَ خطوها ... لتدركه: يا لهفَ نفسي على صخرِ

ألا هبلتْ أمُّ الذينَ اغتدوا بهِ ... إلى القبرِ، ماذا يحملونَ إلى القبرِ

فشأنُ المنايا إذ أصابكَ ريبها ... لتغدو على الفتيانِ بعدكَ، أو تسرى

وقالت ليلى الأخيلية ترثي توبة:

فأقسمتُ أبكي بعدَ توبةَ هالكاً ... وأحفلُ من دارتْ عليهِ الدوائرُ

وقلت خرنق ترثي زوجها بشراً:

فلا، وأبيكَ، آسي بعدَ بشرٍ ... على حيٍّ يموتُ، ولا صديقِ

وقال عقيل:

<<  <   >  >>