للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليسَ لي ... متأخرٌ عنهُ، ولا متقدمُ

وأهنتني، فأهنتُ نفسي جاهداً ... ما من يهونُ عليكِ ممن أكرمُ

أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حباً لذكركِ، فليلمني اللومُ

فجعل أبو نواس يعجب من حسن الشعر. فأنشد مسلم من شعره:

موفٍ على مهجٍ في يومِ ذي رهجٍ ... كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ

تكسو السيوفُ نفوسَ الناكثينَ بهِ ... وتجعلُ الروسَ تيجانَ القنا الذبلِ

فقال أبو نواس: هذا الشعر الذي لم يقل قبلك مثله ولا يقول بعدك. ثم قال له: كأني بك وقد جئتنا بواسطة عقدك. وانشد دعبل:

لا تعجبي يا سلمَ من رجلٍ ... ضحكَ المشيبُ برأسهِ فبكى

أين الشبابُ؟ وأيةً سلكا؟ ... لا أينَ يطلب؟ ُ ضلَّ، بل هلكا

قصرَ الغوايةَ عن هوى قمرٍ ... وجدَ السبيلَ إليهِ مشتركا

فقال: كأنك كنت في نفسي. فسألناه أن ينشد، فأنشد:

لا تبكِ ليلى، ولا تطربْ إلى هندِ ... وأشربْ على الوردِ من حمراءَ كالوردِ

كأساً إذا انحدرتْ من حلقِ شاربها ... أحذتهُ حمرتها في العينِ والخدِّ

فالخمرُ ياقوتةٌ، والكأسُ لؤلؤةٌ ... من كفِّ لؤلؤةٍ، ممشوقةِ القدِّ

تسقيكَ من عينها سحراً، ومن يدها ... سكراً، فما لكَ من سكرينِ من بدِّ

لي نشوتانِ، وللندمانِ واحدةٌ ... شيءٌ خصصتُ بهِ، من دونهم، وحدي

فقمنا، فسجدنا له، فقال: افعلتموها؟ والله لا كلمتكم ثلاثاً، وثلاثاً، وثلاثاً.

ومع ما ذكرنا من غزارة شعر دعبل، فيحسن أن نذكر له الأبيات التي تحتوي على الأمثال، أو تصلح للمذاكرة. فمن شعره إلى المأمون:

أيسومني المأمونُ خطة عاجزٍ ... أوما رأى، بالأمسِ، رأسَ محمدِ؟

نوفي على هام الخلائفِ مثلما ... توفي الجبالُ على رؤوسِ القرددِ

ونحلُّ في أكنافِ كلِّ ممنعٍ ... حتى نذللَ شاهقاً لم يصعدِ

إني من القوم الذينَ همُ همُ ... قتلوا أخاكَ، وشرفوكَ بمقعدِ

شادوا بذكركَ بعدَ طولِ خمولهِ ... واستنقذوكَ من الحضيضِ الأوهدِ

كم من كريمٍ قبلهُ، وخليفةٍ ... أضحى لنا دمهُ لذيذَ المقصدِ

مثل ابن عثمان، ومثل وليدهم ... أو مثل مروانٍ، ومثل محمدِ

وإنما فخر برأس محمد لأن طاهر بن الحسين قتله، وطاهر مولى خزاعة، وكان جده زريق مولى عبد الله بن خلف الخزاعي، وهو أبو طلحة الطلحات، وعثمان سارت إليه اليمانية من مضر، والوليد قتله يزيد بن خالد القسري، ومروان قتله عامر بن إسماعيل.

وقال قتم بن جعفر بن سليمان: بينا أنا في مجلس المأمون، إذ جرى ذكر دعبل، فقال إبراهيم بن المهدي: يا أمير المؤمنين اقطع لسانه واضرب عنقه، قال: ولم؟ قال: لأنه هجاك، قال: وإن هجاني فما أباح الله دمه بهجائي. فقال بعض من حضر: يا أمير المؤمنين، إنه قد هجا إبراهيم، قال: بماذا؟ فأنشده:

أنى يكونُ، ولا يكونُ، ولم يكنْ ... يرثُ الخلافة فاسقٌ عن فاسقِ

إنْ كان إبراهيمُ مضطلعاً بها ... فلتصلحنْ، من بعدهِ، لمخارقِ

فقال المأمون: حسبك. ثم قال: يا ثابت، هل تحفظ ما هجاني به، فقلت: لا والله، فقال: لا بد أن تجيئني بما هجاني به، وإلا رأيت مني ما تكره، وأنا مقيم على ذلك. قال: فانصرفت ولم تكن لي همة إلا تحصيل شيء من ذلك، فحصلت لي القطعة الدالية، فكتبتها في رقعة، وجئت بها، فنظرها وهي بين إصبعي، فقال لي: هذه الورقة حاجة ذاك الرجل؟ فقلت: نعم، فاخذها وقرأها وكررها، ثم لما وصل إلى قوله:

شادوا بذكركَ بعدَ طول خموله ... واستنقذوكَ من الحضيضِ الأوهدِ

قال: يا قوم، رأيتم أظلم من دعبل؟ ومتى رآني هذا الحضيض، وأنا رضيع الخلافة، وما زلت منذ نشأت خليفة، إلا أن القدر صدفها تلك المدة، وكنت مالك البلاد. ثم القى القرطاس، وقال: شأنك، فقد علمنا ما فيه.

وحدث محمد بن موسى الحمال، قال: رأيت دعبلاً عند خشبة بابك، وهو واقف، فقلت: ما تصنع يا ابا علي، فأنشد:

الحمدُ للهِ لا صبرٌ ولا جلدُ ... ولا رقادٌ، إذا أهلُ الهوى، رقدوا

خليفةٌ ماتَ لم يحزنْ له أحدٌ ... وآخرٌ قامَ لم يفرحْ بهِ أحدُ

قد مرَّ هذا، فمرَّ الشؤمُ يتبعهُ ... وقامَ هذا، فقامَ الشؤمُ والنكدُ

<<  <   >  >>