للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويروى أن سكينة بنت الحسين عليه السلام عتبت على نصيب في شيء، وقالت له: إذهب فلست أكلمك حتى يشيب الغراب. فرحل وأقام بالحجاز حتى شابت لحيته. وجاء ووقف بابها، وقال: قاق، قاق، قاق، ها قد شاب الغراب. فأذنت له، وأحسنت جائزته.

وقل مسلمة بن عبد الملك لنصيب: يا أسود أمدحت شيئاً؟ وعنى به رجلاً من أهل بيته، قال: نعم. قال: فهل أعطاك شيئاً؟ قال: لا والله، قال: فلم لا تهجوه؟ قال: نفسي أحق بالهجاء منه، حين دعتني إلى مدح مثله. فأعجبه جوابه، فقال له: تمن ولا تشطط، فقال: لا أفعل، قال: ولم؟ قال: لأني أعلم أن كفك بالعطية أبسط من لسني بالمسألة. فأعطاه عشرة آلاف دينار.

وقال أبو الأسود الدؤلي: امتدح نصيب عبد الله بن جعفر، فأجزل له من كل صنف. فقيل له: تعطي لمثل هذا العبد الأسود؟ فقال: أما والله إن كان جلده أسود، إن مدحه وثناءه لأبيض، وقد استحق بما قال أكثر مما نال، وإنما أخذ رواحل تنضى، وثياباً تبلى، ودراهم تفنى، وأعطى مديحاً يروى، وثناء يبقى، وذكراً لا يبلى.

وكان، هو وكثير، أمدح شعراء الإسلام للملوك عند الرواة، كما أن النابغة أمدح شعراء الجاهلية عندهم للملوك. وقال كثير: ما تمنيت شعراً قط أ، أكون قلته، كما تمنيت بيتين سمعتهما من نصيب، وهما:

من النفر البيضِ الذين إذا أنتجوا ... أقرتْ لنجواهم لؤيُّ بنُ غالبِ

محيونَ بسامينَ طوراً، وتارةً ... محيونَ عباسينَ شوسَ الحواجبِ

قال الزبير: بلغ كثيراً وجميلاً أن نصيباً يشبب ببنات العرب، فقال جميل لكثير: إمض بنا إلى نصيب حتى نملأ أسيافنا منه. فقل كثير لجميل: أخر هذا لأمر حتى نلقاه، فإذا لقيناه أفضناه في التشبيب، فإذا سمعنا منه وأنشدنا، يكون قد اعترف، فتلزمه الحجة، فنملو عذرنا عند الناس في الفتك به، ونشكر على ذلك لصيانة أعراض الحرم. فبيناهما يسيران يوماً إذ لقياه، فأخذا بيده، وقالا له: إنا قد عزمنا على القول فتساعدنا. قال: قولا حتى أقول. فقال جميل:

لطافُ الحشا، بيضُ الخدودِ، أوانسٌ ... عذابُ الثنايا قد مثلنََ بنا مثلا

فقال كثير:

إذا دفنَ بالجاذيِّ مسكاً أنلنهُ ... عرانينَ شماً دنيت حدقاً كحلا

فقال نصيب:

وقربنَ للأحداجِ كلَّ عذافرٍ ... كأنَّ كحلا

فقالا: نحن نشبب، وأنت تصف الإبل؟ قال: أنتم مدحتم بنات عمكم، وأنا حملت سيداتي. فأمسكا عنه، وفارقاه.

وقيل: دخل الفرزدق، ومعه نصيب على سليمان بن عبد الملك، فقال للفرزدق: أنشدني، فأنشده:

وركبٍ كأنَّ الريحَ تطلبُ عندهمْ ... لها سلباً من جديها بالعصائبِ

إذا استوضحوا ناراً، يقولون: ليتها ... وقد خصرتْ أيديهمُ، نارُ غالبِ

فأسود وجه سليمان، وكان يظن أنه إذا استنشده أنشده مديحاً له. فلما رأى ذلك نصيب قال: يا امير المؤمنين ألا أنشدك؟ قال: بلى، فأنشده:

أقولُ لركبٍ قافلينَ لقيتهمْ ... على ذاتِ أوشالٍ، ومولاكَ قاربُ

قفوا، أخبرونا عن سليمانَ، أنني ... لمعروفهِ من أهلِ ودانَ طالبُ

فعاجوا، فأثنوا بالذي أنتَ أهلهُ ... ولو سكتوا أثنتْ عليكَ الحقائبُ

فقل له سليمان: احسنت، وامر له بصلة، وقل: كيف تسمع يا فرزدق؟ قال: هو أشعر الجاهلية. وما أعطى الفرزدق شيئاً، فخرج وهو يقول:

وخيرُ الشعرِ أكرمهُ رجالاً ... وشرُّ الشعرِ ما قالَ العبيدُ

وقال جعفر بن سعيد: قال نصيب: مااجترأت، أنشد شيئاً من شعري حتى قلت:

بزينبَ ألممْ قبلَ أنْ يظعن الركبُ

وروى المبرد أن جريراً قال: لوددت أن نبيت هذا العبد لي بكذا وكذا من شري، يعني قوله:

بزينبَ ألممْ قبلَ أنْ يظعنَ الركبُ

وقيل لنصيب: إيما أشعر، أنت أم جرير في البيت الذي نازعك فيه؟ قال: ما هو؟ قيل: قولك:

أضرَّ بها التهجيرُ حتى كأنها ... بقايا سلالٍ لم يدعها سلالها

أو قول جرير:

إذا بلغوام المنازلَ لم تقيدْ ... وفي طولِ الكلالِ لها قيودُ

قال: قاتل الله ابن الخطفي حيث يقوله. قيل: قد فضلته على نفسك! قال: هو ذاك وقال نصيب:

لقد كانتِ الأيامُ إذْ نحنُ جيرةٌ ... تحسنُ لي، لو دامَ ذاك التحسنُ

ولكنَّ دهراً بعدَ ذاكَ تقلبتْ ... لنا من نواحيهِ ظهورٌ وأبطنُ

<<  <   >  >>